كريستيانيا: "جمهورية الحياة والحرية"

كريستيانيا: "جمهورية الحياة والحرية"

19 سبتمبر 2014
كريستيانيا يحكمها الشعب بقوانينه(Getty)
+ الخط -
يُطلق عليها محبّوها "جمهورية الكيف والحرية". والحرية في كريستيانيا لا تشبه تلك التي ترفع شعارها المملكة الدنماركية. هذه "جمهورية مساهمة"، تخبرك اللوحة عند مدخلها، يمكنك أن تشتري "سهماً" بالقيمة التي تريد، فتصبح مواطناً فيها. دستورها واضح، شعبي بلا ملكة ولا رئيس. حريتها بادية، وبالكاد يصل زائر أو سائح إلى كوبنهاجن لا يعرف عنها، بل هي تنافس معالم سياحية كثيرة. شهرتها ربما تكون في أنها "مدينة الكيف"، ففيها يمتد شارع "الممنوعات"، إلا من المخدرات، التي تمنع منعاً باتاً تصل عقوبة مخالفته "الطرد". إلّا أنّ هناك استثناءً لـ"الحشيش"، الذي يدخن علناً في مقاهي المدينة وشوارعها. فعلى عكس المدن الدنماركية الأخرى، التي يمنع فيها تداول الحشيش منعاً باتاً، يمكنك هنا أن تلحظ بأن اللغات مختلفة والأجناس متعددة ومستويات اجتماعية لافتة، من العمّال العاديين إلى الفنانين، كلهم يختفون تحت "شباك التمويه"، حيث تنتصب طاولات تسمى "بسطات الكيف".

إنّها في قلب كوبنهاجن، ليس بعيداً عن برلمانها وقصر مملكتها "آمالينجبورج" ووزاراتها، وبالأخص خارجيتها، تتربّع تلك المدينة التي تلفها غابات وجداول مياه. كانت في السابق ثكنة عسكرية لحماية الأماكن الحساسة، وعندما أخليت الثكنة ظلت محظورة على المحيط ومحاطة بأسلاك، ذلك ما أثار غضب أمهات أردْن لأولادهن اللعب في المساحة الخضراء. فأزيلت الأسلاك الشائكة ليدخل الأطفال. ومع بداية العام 1968 وثورة الشباب وانتشار حركة الـ"هيبيز" (الهيبيين) دبت الحياة بهذه المنطقة ومبانيها الفارغة. عند الدخول إلى "كريستيانيا" تصبح تحت مظلّة قوانينها الخاصة، لا أحد يطلب منك رسم دخول ولا جواز سفر ولا أحد يسألك عن جنسك ودينك وعرقك. على يسارك جدارية بلغات الأرض الرئيسية، بما فيها لغة عربية مرسومة رسماً، تخبرك عن ضرورة دعم "محبوبتك كريستيانيا".

هذه "جمهورية لها قوانينها"، تقول لنا الشابة ليزا، التي تقيم وتعمل فيها منذ ولادتها. وتضيف: "ما يظنّه الناس بأنّها فقط جمهورية الحشيش هو ظن خاطئ، الأمر مقتصر فقط على سمعة وليس حقيقة. فسكّانها ليسوا سوى مواطنين عاديين يرفضون القوالب الاجتماعية والسياسية. لدينا عدالتنا الخاصة". تاريخ حافل بالمصاعب تمتد كريستيانيا على 34 هكتاراً، وتبعد عن وسط كوبنهاجن 5 دقائق فقط. هي مقسمة بين مدينة وريف أخضر، الأبنية السكنية هي تعمير ذاتي من سكانها، بينما في داخل المدينة يشغل الناس الأبنية التي كانت جزءاً من الثكنة العسكرية.

حاولت سلطات المملكة الدنماركية اخراج سكانها مرات عدة ففشلت، اقتحمتها الشرطة في أكثر من مناسبة لكن بلا فائدة، فالمواجهات لم تزد جيران "المدينة الحرة" سوى التأقلم معها وقبول الأمر الواقع. في العام 2004 بدأت الشرطة الدنماركية تضيق على "سوق الحشيش"، لكنها تراجعت بعد أن انتشر التداول إلى ضواحٍ أخرى، فعاد السوق إلى منبعه تحت شبكات التمويه تلك في شوارع طويلة تمتد داخلها. والتحذير من وجود مخبرين أو شرطة يتم بترداد كلمة "جبنة، جبنة"، لتصل الرسالة ويختفي من يجب أن يختفي.

ومع تدفق السكان الجدد، تغلبت "كريستيانيا" على مصاعب البنية التحتية بابتداع وسائل بدائية وتوزيع أدوار ومسؤوليات، وخصوصاً مع انضمام مثقفين وفنانين إلى السكان الجدد، ما جعل المباني تتحول إلى تجمعات فنية وثورية. ووضع السكان قوانينهم الخاصة، عدالة تقوم على "الشعب" و"مجلس المواطنين". لم تكن السلطات الدنماركية سعيدة بتحول ثكنة عسكرية إلى ما يشبه حكم ذاتي بالقرب من مناطق حساسة.

وعلى ما يقول أحد سكانها، ميكاييل، لـ"العربي الجديد": "لقد تعرضنا لحملات تشويه في الصحافة ومن السياسيين ومن الشرطة، وصفونا بكل شيء، لكنّنا لسنا أكثر من عشّاق حياة وحرية وكل خطوة نقوم بها فناً وطبخاً واحتفالاً تستند بالأصل إلى ما تعلمناه من التقاليد الدنماركية القديمة، لكن البعض لا يزال إلى اليوم ينظر بعين الشك والريبة، محبذاً سماع أحذية العسكر". 

هنا العيادة الطبيّة، وقريباً منها حمام "سوق" عام، وهذه دكاكين بسيطة وبائعو مستلزمات بيتية، متجر إصلاح الدراجات الهوائية وبيعها، مطاعم نباتية وأخرى غير نباتية، "اسكافي الجمهورية" يعلّق على الشجرة أحذية للدلالة على متجره. بعض الأحياء تمنع فيها السيارات، وتمتد ورش تصليح الجرّارات الزراعية في محيطها. في كريستيانيا رياض أطفال، وتلاميذ ومعلمون. يخبرنا "مواطنو الجمهورية" عن أن الفيلسوف والشاعر الأميركي وليام شيفر (بيل) عاش فيها منذ السبعينيات حتى وفاته العام 2006. في ساحة "كارل مادسن" (وهو محام يساري قاتل النازيين) تجد سوقاً من المصنوعات التي يسوقها السكان للزائرين والسائحين، مصنوعات قد لا يقدم عليها سوى من له علاقة بما يسمونه هنا "ثقافة بوب مارلي".

الموسيقى والفن لهما مكانة عند أهالي كريستيانيا، ففيها قاعات خاصة واستديو انتاج موسيقي ومبنى الأوبرا، ولديهم قاعة سينما تتحول إلى "برلمان الشعب" حين تعقد الاجتماعات وتتخذ القرارات التي تلزم الجميع، بمن فيهم بائعو الحشيشة الذين يبقون ينتظرون النتائج في الأسفل عند المشرب. مطبخ الشعب يعني أن لا جائع في هذه الجمهورية، فالطباخون متبرعون من سكانها، يجمعون ما تريد المتاجر رميه ثم يفرزونه ويطبخونه ليقدم وجبات يومية بين السابعة والثامنة مساء. قد يتساءل البعض: كم عدد سكان تلك الجمهورية؟ لا أحد يجيب عن هذا السؤال. كان لديهم عنوان بريدي واحد، قبل أن تطالبهم السلطات الدنماركية بعنوان لكل ساكن لحصر أعدادهم، وهو أمر يجري التقيد به.

أمّا عن العلاقة مع المملكة ومع مصلحة الضرائب والشرطة الدانماركية، فيتبرع كريستيان للإجابة، وهو يضع بين أصابعه لفافة تبغ بدت غير عادية، ويقول: "علاقتنا مع مملكتنا منذ أسّسنا مدينتنا الحرة في العام 1971، لم تكن علاقة جيّدة دائماً، لكن مع الزمن تبيّن لهم ولقوات الشرطة أننا نعيش حكماً ذاتياً لا يستطيع أحد انتزاعه منا".

المساهمون