في وداع محمد عمارة

11 مارس 2020
+ الخط -
رحل المُفكِّر الإسلامي، محمد عمارة، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر، بعد حياة ثريّة حافلة بالفِكر، والبحث، والمعرفة، والتنظير، والتحقيق، والتدقيق، مخلّفاً تركة فكرية كبيرة ومكتبة زاخرة تربو على 240 كتاباً، كما يشكّل رحيله خسارة فادحة، فهو بحقٍّ، كما نعاه الأزهر، "ترك برحيله فراغاً كبيراً، يصعب ملؤه في صفوف كبار العلماء الذين يحملون على عاتقهم أمانة العلم، وصدق الكلمة، وأنّ التاريخ سيظلّ يذكر فقيد الأزهر والأمّة العربية والإسلامية بعلمه وفِكره الوسطي".
مرّ عمارة بتحوّلات فكرية كبيرة، تشهد له ولاتساقه مع ذاته وقناعاته، ولا تقدح في مصداقيته كما يرى بعضهم، فقد بدأ في شبابه عروبياً بعد انضمامه إلى حزب "مصر الفتاة"، ثمّ تحوّل ماركسيّاً في الخمسينيات، وبعد فترة شهدت مزيجاً من التأمّل والمراجعة والنضج الفكري، استدار استدارة كبرى مغادراً اليسار، وحطّ رحاله في نهاية الستينيات في دائرة الإسلام الحضاري (شأن آخرين على اختلاف اهتماماتهم وإسهاماتهم الفكرية، مروّا بالتحوّل نفسه، وكانوا معه مثل: طارق البشري، وعادل حسين، وعبد الوهاب المسيري، وقبلهم محمد جلال كشك)، وصار بعدها عموداً راسخاً من أعمدة المدرسة التجديدية التي تمثّل الإسلام الإصلاحي التجديدي (تختلف عن مدرسة الإسلام الحركي القائم على التنظيمات والجماعات) الذي يتبنّى نهج الاعتدال والوسطية، ويجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويبتعد عن الغلوّ والتنطّع والتطرّف، وتمتدّ جذور هذه المدرسة إلى رائدها محمد عبده، وقد تحدّث عنها تفصيلاً الأكاديمي الأميركي ريموند ويليام بيكر في كتابه: "إسلام بلا خوف: مصر والإسلاميون الجدد".
يمثّل عمارة ظاهرة قلّما تجد لها نظيراً معاصراً، ليس في البحث فحسب، ولكن في غزارة إنتاجه،
 وتنوّعه، وكثافته، وغطّى مجالات فكرية عديدة، مع التأكيد أنّه كان عصامياً مستقلّاً كلّ الاستقلال، لا تقف خلفه مؤسّسة تدعمه، بأيٍّ من أشكال الدعم، ولا ينتمي إلى "شِلَّة" من تلك "الشِلل" الثقافية، التي يُطبّل ويُزمِّر أعضاؤها لبعضهم بعضاً بدافع "الشللية"، بغض النظر عن أي اعتبارات موضوعية، فقد بعث عمارة، بعد جهد فردي هائل وصبر دؤوب، تراث أعلام النهضة من مرقده، بعدما كان مطموراً مجهولاً مدفوناً، حيث نقّب عمارة عنه وتتبّعه، وجمعه من مختلف الصحف والمجلّات، وبوّبه وصنّفه، وقام بمفرده بتحقيق الأعمال الكاملة لمحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، ورفاعة الطهطاوي، وعبد الرحمن الكواكبي، وعلي مبارك، وقاسم أمين، وهذا جهد لا يضاهيه إلا عمل المؤسّسات البحثية الكبرى، القائمة على كتيبة من الباحثين المُتمرّسين، على الرغم من أن صاحبه فرد مستقلّ يعمل بمفرده.
خاض محمد عمارة معارك فِكرية عديدة، استعدت عليه أطرافاً كُثراً، على الرغم من التناقضات فيما بينها، فقد هاجم التنطّع والتديّن الشكلي، فاستعدى المُتسلّفين، كما هاجم الدور السياسي للكنيسة، فاستعدى المُتَأقبِطين (المتاجرين بالورقة القبطية). أمّا سجالاته مع غلاة العلمانيين، فقد كانت كافية لاستعداء العلمانيين المُتطرّفين جميعاً، الذين نعتوه بـ"التكفيري"، في حين أن الرجل لم يكن تكفيرياً أو متطرّفاً يوماً. وقد ألقى الاستقطاب الإسلامي - العلماني بظلاله على رحيل عمارة، حيث حضرت العصبية والمكايدة الأيديولوجية وتصدّرت المشهد، فقد أسرف إسلاميون (من أتباع الجماعات والتنظيمات) في رثائه، مع أن الرجل كان مستنيراً إلى أبعد مدى، فقد 
أنصف، بموضوعية كبيرة، شخصيات طالما أوسعها الإسلاميون تجريحاً وسبّاً، مثل رفاعة الطهطاوي، والأفغاني، وسعد زغلول، وطه حسين، وقاسم أمين. كما انتصف لثورة 1919 التي ناصبها الإسلاميون العداء، وقالوا فيها ما لم يقله مالك في الخمر. وهاجم محمد عمارة الجمود الفكري للإسلاميين الحركيين بصفة عامة، وقعودهم عن الاجتهاد والتجديد، ونظرتهم الاختزالية، وجهلهم بتاريخ هذه الشخصيات بصفة خاصّة. وانتصف للفنون الجميلة، وقال إنّ الإسلام لا يُخاصم الجمال، ولا يُعادي فنونه. أمّا العلمانيون، فقد أحجم غالبيتهم عن مجرّد ذِكره أو الترحّم عليه، وحتّى الذين ذكروه، قال أغلبهم إن عمارة كان "مُثقّفاً" عندما كان "يسارياً"، وبعدما تحوّل إسلاميّاً فقد صفته الثقافية، وأهليته الفِكرية، في مرحلةٍ مؤسفةٍ من مراحل "التكفير الفِكري".
بعيداً عن الجانب الفكري وفيما يتعلّق بالجانب الإنساني، فإن مُفكّرين يدخلون، مع مرور الوقت، وتحت وطأة الأضواء، في حالة من تضخّم الذات، قد تصل أحياناً إلى درجة النرجسية، بيْد أن الأمر مع محمد عمارة كان مختلفاً، وعن تجربة شخصية تستحقّ أن تُروى لما تحمله من دلالات إنسانية.
في نهاية الصيف الماضي، تحدّثت إلى الصديق يحيى جاد (وهو من تلاميذ عمارة المُقرَّبين)، وطلبت منه محاولة ترتيب لقاء معه. بُعيدها هاتفني يحيى وأخبرني بأنّه اتصل بالدكتور عمارة الذي حدّد لي موعداً لزيارته. وبينما أسير في طريقي، مرّت في ذاكرتي مشاهد عديدة، من كتابات عمارة ولقاءاته المُتلفَزة ومناظراته، فترسّخ في مُخيّلتي أني سأُقابل رجلاً عابساً لفرط جديّته البالغة. وصلت إلى العنوان وضغطت الجرس. بعد لحظات انفتح الباب، ليظهر الدكتور عمارة بقامته المربوعة، تعلو وجهه المهيب ابتسامة صافية. صافحني باحترام ورحّب بي، فدخلت إلى مكتبه/ مكتبته، ووقفت لبرهة مبهوتاً أمام الحجرة الكبيرة التي احتلّت الكُتب جدرانها الأربعة من الأرض إلى السقف، وتوسّط نهايتها مكتب كبير، تراكمت عليه أكوام من الكُتب والأوراق وتراصّت بعناية بالغة، وبعد لحظات قليلة اكتشفت أن ما كان في مُخيّلتي مجرّد أوهام. وحدتني أمام رجل بشوشٍ، بسّامٍ، في غاية الأدب والتواضع، خفيض الصوت، يستمع أكثر ممّا يتكلّم. شرّق بنا الحديث وغرّب، وسار في دروب الفِكر، والسياسة، والتاريخ. سألته عن أشياء كثيرة، وصرّحت باختلافي معه في بعض النقاط، فتقبّله بصدر رحب. أهداني كتاباً جديداً من كُتبه، وبعد قرابة ساعتيْن ماتعتيْن استشعرت الحرج والإثقال، فاستأذنت في الانصراف، فودّعني ودعاني لتكرار زيارته كلّما سنحت الفرصة .. تغمّده الله بواسع رحمته.
دلالات