في رحيل محمود عبد العزيز... أصالة أداء

في رحيل محمود عبد العزيز... أصالة أداء

14 نوفمبر 2016
يحوّل عبد العزيز الشخصيات على الورق إلى حقيقية(يوتيوب)
+ الخط -
لم تكن السيرة السينمائية، الخاصّة بالممثل المصري محمود عبدالعزيز، ذات مسارٍ نوعيٍّ واحد. ففي مسار أفلامه ومسلسلاته، التناقض حاضرٌ، والارتباك الإبداعي مُصاب باهتزازٍ عاديّ، والتخبّط، أحياناً، عاملٌ سلبيّ. لكن هذا كلّه لن يحجب الأهم، ولن يحول دون استعادة عناوين منضوية في إطار أداءٍ تمثيلي، يؤكّد أن هناك ركائز ثابتة في اشتغاله، تتمثّل، أساساً، بتحويل كلّ شخصية، مهما يكن دورها أو مساحتها أو موقعها في العمل، من صورةٍ على ورقة، إلى كائنٍ حيّ يتمتّع بمزايا البشر، حتى أقصى واقعية ممكنة.

وإذْ يُمكن تحليل المعنى الذي يبلغه محمود عبد العزيز، في تأديته كلّ دور، فإن رحابة المساحة الأدائية ـ المتأتية من حُسن امتلاكه تقنيات التمثيل، مُضيفاً إليها مغزى الاختبار، مع أنه متخصّص بتربية النحل، وعلاقته بالتمثيل غير مرتبطة بدراسة أكاديمية ـ تضعه أمام تناقضٍ كهذا، بين ذروة براعة متمكّنة من التنقيب الأدائيّ في أعماق الحكايات المروية عبر شخصياتٍ وحالاتٍ وانفعالاتٍ، وسوء استخدام تجربته الأدائية في أعمال تنتمي، بحسب العُرف الفني، إلى "لزوم المهنة": موافقة الممثل على دورٍ لا يتمتّع بقِيَم فنية ودرامية وجمالية، لأن له رغبة في الاحتفاظ بخطّ مهني، أو في تحقيق "شُغلٍ"، أو في تمتين تواصل مطلوبٍ مع مُشاهد ينتظره.

وهذا يتمثّل في حِرفيةٍ، يكتسبها محمود عبد العزيز عبر خياراتٍ، لن تكون متساوية الإبداع، لكنها تُشكّل كلّها أسلوباً، يُمكن تفسيره بقولٍ للسينمائي المصري الراحل رضوان الكاشف: "لكل ممثلّ، بالفعل، طريقة تنجح معه هو وحده، ولا يُمكن أبداً تعميمها". قولٌ ينطبق على ممثلي حقبةٍ، يفتقدها كثيرون، في مقابل راهنٍ لن يمتلك أدوات تعبير تجديدية، إلاً نادراً. والقول يُحقِّق لمهنة التمثيل صوابيتها المطلوبة. ومع أن المقارنة بينه وبين مجايليه عائقٌ دون اكتشاف أساليبهم التمثيلية، إلاّ أن انتماءهم إلى جيلٍ تمثيلي واحد يطرح سؤال المهنة في مفرداتها وتقنياتها، التي يُمكن تحديدها بقولٍ آخر، للسينمائي المصري يُسري نصر الله: "إذا لم يَعِ الممثل ما يجب عليه ليكون ممثلاً، وهي أشياء بالمناسبة بعيدة تماماً عن أن تخضع لتقييم أخلاقي، فليترك التمثيل". والأهم: "ليس الاحترام في "ماذا" يؤدّي الممثل، ولكن في "كيف" يؤدّيه أمام الكاميرا".

هذا الفرق بين "ماذا" و"كيف" يصنع أسلوب الممثل، محوّلاً إياه إلى تقنية تتضمّن قواعد اللعبة المبنية، أصلاً، على آليات متداولة في كيفية الوقوف أمام الكاميرا، أو في كيفية التحرّك، والنطق بنبرة، والتعبير عن انفعال. آليات تتيح للممثل النبش في ذاته، لتبيان ما يعتمل فيها من حساسية إزاء دورٍ أو شخصية. وهذا كافٍ للتنبّه إلى مسارٍ تمثيلي طويل لمحمود عبد العزيز، يبدأ قبل 42 عاماً، علماً أن إطلالاته السينمائية تتوقّف مع "إبراهيم الأبيض" (2009) لمروان حامد.

لن تكون الأدوار الكثيرة لمحمود عبد العزيز التي لن تختزل مهنيّته الأدائية بعنوانٍ دون آخر (رغم التفاوت الإبداعي بينها)، أقلّ من فعلٍ يمزج حيوية الانخراط في الشخصية حدّ الانمحاء شبه الكامل للذات، بكيفية إيجاد توازنٍ بين الفنان والدور. فاللائحة تطول، والأدوار عديدة، والمناخات التي يسرد حكاياتها الدرامية والجمالية والتأملية، أحياناً، في أحوال بيئة واجتماع وانفعال وروح، بشكل كوميدي أو درامي بحت، تجعله يطوِّع كل شخصية كي تمنحه ما يريد البوح به كممثل، ويُطوِّع نفسه من أجلها، كي لا يكون عائقاً أمام تحرّرها من سطوة حضوره كحِرفيّ. كأنه، بهذا، ينعكس في قولٍ للكاشف أيضاً: "الممثل ممثل. إذا لم يكن قادراً على تجسيد أي شخصية، فهو ليس كذلك. قد يكون أداؤه فيها عالياً أو متوسّطاً أو حتّى ضعيفاً. هذه المسألة تتفاوت. لكن، أساساً، لديه القدرة على فكّ مفاتيح الشخصية، والدخول فيها".

برحيله، يُصبح تحليل الأداء التمثيلي السينمائي، له ولمجايليه، حاجةً، لما فيه من دروسٍ مُعتَبَرة.


المساهمون