فعلتم الكثير

فعلتم الكثير

10 ابريل 2014

مظاهرة في القاهرة ضد الانقلاب (أرشيفية Getty)

+ الخط -

فعلتم الكثير، ومازلتم تقومون بعمل كبير. صمودكم يستحق كل دعم وتقدير، من كل أحدِ يؤمن بقيمة مصر، وعظمة ثورة يناير. قدمتم نموذجاً لصناعة الأمل، وتمكينه بالعمل، وبتأكيدكم على استشراف مستقبل لمصر وثورتها. كتبنا في المرة الماضية "لا تصدقوه"، وقد يأتي على لسان الكذوب بعضٌ من الحق، ومؤشراتٌ لعدم الثقة والقلق والخوف؛ حينما يقول الفرعون الجديد، من يريد أَن يحكم، أو يتحكم في هذا البلد، والذي قاد انقلاباً عسكرياً "الإرادة الشعبية كان لها الأثر في إطاحة رئيسين، ومن الممكن أن يطيحوا الثالث" هكذا قال. واليوم نقول لبعض الذين بدأ يتسرب إليهم بعض من الإحباط، مع طول زمن مقاومة تلك الحالة الانقلابية وتحديها، ومر الوقت وتأخر النصر، وهو، في حقيقة الأمر، لا يلحظ أن الصامدين على أرض الواقع قاموا بعمل معجز. نقول لهم: نعم .. فعلتم الكثير.


ليس طول الوقت في مصلحة القوة الباطشة. لكن، هو عظيمٌ في رصيد القوى المقاومة. مقاومة الانقلاب ومنظومته تسعة أشهر أمر يحار فيه الخصم قبل المؤيد، ويؤكد أن حال الناس أقوى، ومقاومتهم أمضى، وقدراتهم أكثر فاعلية وأجدى. وهذا يثبت أَن الناس على الأرض، وفي الميادين، يؤكدون يوماً بعد آخر، أَنهم يملكون الأرض، ويتفاعلون مع الناس، ويوجدون في الميادين، وهذه مؤشرات على الوجود والحضور الفعال. أما الرأس الذي يزينون له، ليرأس كفرعون جديد، فهو رأس معلّق في الهواء بالأحلام والأوهام، لا يحمله سوى الخائف أو الزائغ، أو الغافل، أو المخادع، أو صاحب المصلحة، أو الذي اعتاد أن يكون عبداً لسيّده، يكون في خدمته، ملتمساً رضاه، ومتفقداً موضع رغبته. هؤلاء ليسوا التربة التي تمثل تراب الأرض الحقيقي، ولا هم الذين يمثلون ملح الأرض. الناس على الأرض، وفرعون الجديد بلا أرض، وإن كانت له أرض تميد من تحت قدميه، لأنها رمال متحركة، لا يثبت فيها شيء، ولا تستقر عليها قدم. نعم .. فعلتم الكثير. 
أقول لكم، وبكل ثقة، إنه الذي يخاف أن من يستخدم الحيلة والكذب والبطش، ويصنع بيئة النفاق، لا يمكن أن يكون سلوكه هذا سلوكاً لمتمكن، وإنما سلوك الواهن الأجوف، والذي يحاول أن يغطي وهنه بمظاهر خدّاعةٍ من طغيان، أو نفاق، أو عمل تضليل، أو حركة تزييف. كل هذا إنما يؤكد أن الناس، حينما يخرجون مطالبين بتأمين حياتهم، ومطالب معاشهم، إنما يعبّرون بذلك عن قوة حقيقيةٍ، ليس لأحد أن ينكرها، مهما تعلق هؤلاء بالخارج، بمساعداته أو سكوته. سلوك فرعون الجديد في الداخل، وبعض الخارج الذي يؤيده، لا يعلم حقيقة أساسية، هي أن "خميرة المقاومة" في الشعب، هي من تملك الأرض والميادين، وأَن إرادة الشعوب لا تدخل في حواسيب الدول الكبرى، بل غالبا ما تجهض حساباتهم، الحسابات الرخيصة في الداخل، والدنيئة في الخارج.  تبدو هذه القوة التي تجعل المقاومة مستمرةَ، وفاقت التسعة اشهر، تواجه حالةً انقلابيةً باطشة، وخارجاً يحتال ويتعلل، ويجعل من مصالحه مع منظومة سلطات الأمر الواقع في مصر قبْلته، فلا يقلقها ولا يزعجها، إلا أنّ ما يزعج الاثنين، بحق، هو ثبات على الموقف، بما تؤدونه كل يوم من احتجاجاتٍ، ومطالباتٍ، ومن محافظةٍ على ثورة، وحمايةٍ لها، ومن دفاع عن مستقبل وطنٍ، ليس محل مساومة، بعد ثورة 25 يناير، نعم.. فعلتم الكثير.
إرادة الشعوب، كالرياح، قد تهدأ، أحياناً، لكنها، في كل الأحوال، لا تنتهي، ولا يعرف أحد متى تشتد. ونقول للذين ينخدعون بكل عمل، ويزينون بكل حيلة، ماذا صنعتم سوى القتل والقنص والخنق والحرق والقبض والاعتقال؟ ماذا صنعتم سوى انتهاك حقوق الإنسان والكيان والعمران والبنيان والأوطان؟ عملكم كسراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء. لم تصنعوا شيئاً ذا بال، والفرق بين ما تصنعون وما يقوم به الثوار فرق بين سيطرةٍ انقلابيةٍ على رأس الدولة، وحركة فاعلة ستطيح كل رأس، تتسع مساحة الغضب والمقاومة، لتعلن، لكل أحدٍ كان في جوقة هذا الانقلاب، أن تصور السيطرة على رأس الدولة، ووهم إدارتها، لا يعني بحال أن فى وسعها وطاقتها إدارة المجتمع والشعب، فهى ليست خالصةً لكم أيها الانقلابيون. إنه صوت الناس عندما يكون عالياً، معبراً عن ريح عاتيةٍ، تقوم بكل تحذير وإنذار للذين يظنون أنه دانت لهم الناس، وانقاد لهم الشعب. إن كنتم تبصرون، فالأمر على غير هذا، ها هي أفعال احتجاجية، ومقاومة حقيقيةٌ، تؤكد أن هذا الشعب رقم صعبٌ، في معادلة الثورة والتغيير، في معادلة الأوطان والعمران، نعم.. فعلتم الكثير. 
كان الشباب المفاجأة الحقيقية في ثورة 25 يناير. الشباب هم الأمل والمستقبل، قدم نفسه باعتباره شرارةً لكل عمل ثوري. أقول لهؤلاء المنافقين: مصر ليست حبلى بنجم المشير، بل بشبابٍ واعدٍ وفاعليات مقاومةٍ لا تنقطع. الشباب وجّه رسالةً واضحةً حادةً، قاطعةً في الاستفتاء على وثيقة الدم، المسماة الدستور، فصفع الانقلابيين وكشفهم، أَقول لهم إن من يعرف قيمة الشباب هو ذلك الوطن، وأهل الانقلاب والسلطة لا يعرفون مدخلهم، ولا طريقتهم. "المستقبل كلمة سره الشباب"، ومن جوف هذا الجيل، تولد حركةٌ طلابيةٌ عظيمةٌ في أساليب احتجاجها، وفي قدراتها وإمكاناتها. يقومون، كل يومٍ، في معركة الإبداع بما يذهل، ولا يزال في طاقة الشباب وطوقهم أن يقدم كل جديد، وكل عمل مقاوم. أما الذين قاموا بالانقلاب، ويريدون عودة ما كان عليه الأمر قبل 25 يناير، فإنما يعبّرون عن حركة تخلفٍ تعمل على "قديمه"، من دولةٍ عميقةٍ وأجهزة ثورةٍ مضادة، ومصالح شبكة فساد واستبداد. كل يوم الشباب ينادي بفعله: أيها القوم: المعركة في مصر ليست معركة الماضي، فثورة يناير اجتازت، وتجاوزت، بنا جميعاً، نحو بناء مستقبلٍ لن نفرط فيه. نعم.. فعلتم الكثير. 
أيضاً، من الأهمية بمكان أَن انتقال الذين قاوموا وثاروا، ويواصلون الفعل الثوري بكل طاقة، من واقع افتراضي إلى واقع حقيقيٍّ، يشير إلى ضرورة كشف الصناديق السوداء كلها، المتعلقة بمفاصل النظام الفاسد والمستبد والدولة العميقة والثورة المضادة. يمضي النظام اليوم عارياً، مكشوفة أستاره، والثورة تحاول نزع ورقة التوت الانقلابية التي تخفي عوراته التي لم تعد كافيةً، لستر أفعالهم الدنيئة وسياساتهم الخسيسة. ولم تعد الكلمات الفضفاضة، والممارسات الباطشة، تخيل على أحد، أو تمر من غير مقاومة أو مواجهة. نعم قد يتعثر الوليد (الثورة) حتى يقف على قدميه، ويتمكن من الدفاع عن كيانه، وقد يمرض، وقد يغرر به. ولكن، لا يلبث إلا أن ينهض بفتوته وعزمه وأمله في المستقبل، ولسان الحال والحق يقول: الانقلابيون يحاربون معركة الماضي والمصالح، والمقاومون والثوار يخوضون معركة الأمل والعمل والمستقبل. نعم.. فعلتم الكثير. 


تعجل النظام الموصوف بالتكلس والشيخوخة وتصلب شرايينه من كثرة هوانه، ومن غباء سياساته في ممارسته، في مرحلة احتضاره ونهايته، وهذه علامات ومؤشرات تجعل رصيد الثائرين ممتداً، لأنهم أصحاب رسالة حق وهدف ورسوخ. أما رصيد منظومة الانقلاب فنافد زائف، لا يسمح بالمزيد، "نأسف.. رصيدكم لم يعد يسمح"، ونؤكد لكم أنّ إعادة زراعة الخوف في مصر لن تجد أرضاً خصبة، لكم مؤشراتكم الفاضحة، ولنا مؤشراتنا الواضحة. من تلك المؤشرات أن الثورة نجحت في إعادة تشكيلنا جميعاً، ضمن مرحلة جديدةٍ، يجب أن تستلهم روح ثورة يناير. نعم.. فعلتم الكثير. 
إن عالماً جديداً تشكل منذ 25 يناير، والقوانين التي كانت، أو سادت، قبل هذا التاريخ، فقدت تاريخ صلاحيتها، وفاعلية مادتها، ووصلت إلى نهايتها، ومعروفةٌ أضرارها وخيبتها. نحن أمام نوع آخر من المعادلات والقوانين والقوى والقدرات وآفاق جديدة من الغايات والتطلعات. وذلك كله في إطار رصيدٍ من الثقة للثوار يتجدد، ورصيد الانقلابيين ينفد ويتبدد. ومن أعظم تراكم الرصيد الثوري في هذه المرحلة أننا عرفنا أن المعركة أصبحت واضحة في ساحاتها ومساحاتها، وصارت أوضح مما كانت، وطردت كل مداخل الرومانسية والخيال لمصلحة حقائق ميدانية راسخة. وكشف هؤلاء عن قبح مكنونهم، وعن عوراتهم، وعن سوء طويتهم، وعن سيل مؤامراتهم على هذا الشعب ومستقبله. المعركة يا سادة صارت في مرحلةٍ فاصلةٍ عاجلةٍ فاعلةٍ بين ثورة حقيقية وثورة مضادة، بين دولةٍ منشودة وأخرى عميقة. الأمر لم يعد يقبل المساومة على مستقبل مصر وثورتها. نعم.. فعلتم الكثير. 
يشكل الانقلاب حالةً كاشفةً في امتداداته، وتحالفاته، ومصالحة الآنية والأنانية، وشبكات فساده ومؤسسات استبداده، بحيث نرى هذا الانقلاب الكاشف الفاضح الذي أشار بوضوح إلى الذين ركبوا الثورة، من نخبٍ مُحنّطةٍ، أو مُنحطّة. وجسّد وجود فريقين في مسار استئناف الحالة الثورية من جديد، بحيث علم الثوار الحقيقيون أن في استطاعتهم الكشف عن الذين يتحايلون، ويبطشون، لتحقيق مصالحهم، ويدلسون على الحالة الثورية بخطابهم، وأفعالهم، وينضمون، كل يوم، إلى ركب الثورة المضادة. فئة النفاق الثوري لم يعد لها مكان، أو مكانة، في ظل فعل ثوريٍّ، يحقق أهداف ثورة حقيقية، ويؤكد على مكتسبات ثورة أصلية. نعم.. فعلتم الكثير. 
"أتى أمر الله فلا تستعجلوه". إن سنن النصر بادية فاعلة ماضية، والسنن الخاذلة والمخذلة للمنظومة الانقلابية، بكل عناصرها، ناصبة قاضية بادية، والاستيئاس غير اليأس؛ وهي أحوال تطرأ على الإنسان الحر، وضعاً استثنائياً لا يلبث أن ينقشع، حينما يتأكد من الثقة في وجه الله ونصره وتأييده، ويتأكد للجميع أن مكر الانقلاب واحتياله لا يمكن أن يكون في مواجهة مكر الله وتدبيره، "حتى إذا استيأس الرسل، وظنوا أنهم قد كذبوا، جاءهم نصرنا، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين". نحن نحبط الإحباط، ونكسر اليأس، ونهزم الانهزام، لا يمكن لليأس أن يتمكن منا، أو فينا، وكل هؤلاء الشهداء الذين سقطوا، وهؤلاء المظلومين الذين اعتقلوا، وهؤلاء المقاومين الملوّح لهم بالإعدام، وذلك لن يزيدهم إلا إصراراً وعزماً. نعم.. فعلتم الكثير.
من مواقع الأمل، نتفقد ميادين الاحتجاج وصناعة المستقبل. سترى الطفل الصغير المسمى الحدث يخرج، يعبّر عن رأيه ومقاومته كل ظلم أو طغيان. وتخرج البنت الصغيرة البريئة، فتتحول كتلة ثورة وتثوير، يبعث هؤلاء روح الثورة في كل جامدٍ أو بارد، وتثور ثائرة المجرمين والمستبدين والطغاة، فلا يخفون رعبهم، فيستهدفون المستقبل بالقتل والقنص. لكن، هيهات لهم أن يقضوا على كل آفاق المستقبل وطاقاته.  أراد "فرعون القديم" أن يصادر المستقبل، بقتل كل طفل، فواتاه الله، من حيث لا يحتسب، من قاد ثورةً ضد كل الفرعونية، بكل أشكالها، ورفض العبودية والتعبيد. وأكد قدرة فائقة على صناعة مستقبلٍ لا يمكن أحداً أن يصادره، أو يحاصره. إنها الرسالة ذاتها تُوجه من صُنّاع المستقبل الذين ينتشرون في الشوارع والميادين، لينالوا عيشاً كريماً وحريةً وعدالةً وكرامةً، يوجهون كل عناصر غضبهم لمن أرادوا أن يستأثروا بالقصور المشيّدة، كعلامة طغيان. "أنتم إلى زوال، والثوار لهم المستقبل والمآل". المستقبل يتحرك فيكم وبكم ولكم، والمستقبل يأتي عليهم، ولن يكون لهم. صناعة الأحرار تولد الآن، وتقدم ثمن الحرية من دمائها، ومن زهرة شبابها. أراد الانقلابيون أَن يقطعوا الطريق على هذه الصناعة، فجرّموا صناعة الأحرار. لكن، هيهات.. هيهات. الثوار مصنع الأحرار. نعم.. فعلتم الكثير، وقمتم بكل جليل، وما زال أمامكم عمل كبير، في معركة المستقبل والمصير، فعلتم الكثير.

 

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".