عن الأعداء السهلين

29 نوفمبر 2016
+ الخط -
لا معنى لكل الانتصارات الكبرى التي نصوغ من أجلها أعداء سهلين، هذا معروف. نعتقد أننا انتصرنا على أفكار أو على جماعات أو أحزاب أو دول، عندما نجسد أعداءً سهلين ونختصر بهم هذه الجماعات.

يمكن لأتفه شبيح الاعتقاد أنه انتصر نظرياً على الثورة السورية، عندما يختزل كل مناصريها والقائمين عليها ببعض المجموعات المتطرفة، فتسهل محاججتها. ويمكن لأي نظام فاشيّ أن ينتصر على أية معارضة، عندما يعتقد أن كل معارض هو متدين أو خارج عن القانون. هؤلاء أعداء نصممهم بعناية، أعداء لا يترتب على عدائهم أي جهد، ولا احتمال هزيمة ولو بسيط معهم. 

ولنفس الأسباب، ولأن مثل هؤلاء يحتاجون إلى عداء لا يترتب عليه أي خطر أيضاً، فإنهم يتحدثون عن أعداء بعيدين أو أعداء مجردين. أخبرني مرة صديق ماركسي (تخيلوا أنه ماركسي ووقف مع ثورات الشعوب والمهمشين! سبحان الله) أنه يشعر بحاجة إلى عدو حقيقيّ. قلت له مستغرباً وممازحاً: يا رجل؟ النظام الرأس مالي؟ الليبرالية  والنيو ليبرالية؟ الإمبريالية؟ وتحتاج بعد كل هؤلاء عدوا؟ فضحك كثيراً، وفهمت منه بعدها أنه يريد عدوا من لحم ودم.
 
هذا هو الجزء بالضبط الذي تتقاطع فيه مشاكلنا جميعنا مع هذه الأفكار والشعارات. وأنا الذي كنت أرددها ولو في فترة قصيرة من عمري القصير أصلاً، أعرفه عملياً.

يُقال: من لا يكون ماركسياً في بداية الشباب فلا قلب له، ومن يبق ماركسياً بعد هذه الفترة، فلا عقل له. وأنا مع بداية دخولي إلى الجامعة، كنت ذا قلب واسع كبير، يتسع لآمال تغيير العالم جميعها. أغوتني شعارات اليسار الكبرى، ورددتها. لكنني بعد وقت قصير شعرت نفسي مخنوقاً، وأنني أواجه أعداء لا أراهم ولا أعرفهم، لا بل إنني أواجه أعداء من كلمات فقط، أقاتل صياغات لغوية فحسب. 


أنا فلاح، وإن حملوني بكل شعارات العمال الذين لا أعرفهم، ولا أعرف أين يوجدون بالضبط في بلاد الموظفين هذه، أنا فلاح قد أفهم كل العناوين الكبيرة إلا عندما يتعلق الأمر بالأعداء. لا تقولوا لي لا إمبرالية ولا رأس مالية، هل عدونا هو جورج بوش؟ هل هو جارنا الذي يملك سيارة فخمة؟ ليس عندنا مصانع، لكن هل هو معلم ورشات البناء مثلا؟ المصيبة تزيد سوءاً عندما تشعر بالضيق من الحياة؛ فالعناوين الكبرى للعداء لا يعود لها معنى! وتُفاجأ في نهاية الأمر بأنك تفرغ حقدك في شجار مع صديق أو قريب لأسباب تافهة. 

هذه شعارات تحيل إلى أعداء سهلين، وإن بدوا بأسماء كبيرة ومحملين بمخاطر وقدرات خارقة، سهلين لأنهم أعداء من كلمات، ومن شعارات كانت تجذبنا لأنها تريحنا.

كنا نكتفي بها من دون أن يحدث جديد يجعلنا  نكتفي، نعتقد بمجرد أننا نردد شعارات التغيير، أننا غيرنا العالم، أو أننا نساهم بتغييره. وفوق ذلك كله، فإننا نرددها بدون أن نواجه أية مشاكل، ومن دون أن تهددنا أية مخاطر. كل ذلك بينما كنا نرى زملاءنا الذين يحملون شعارات أبسط، ضد السلطة ورجال الأمن، يدكّون لأشهر في السجون.


كنا نرى "الذي يدافع عن (شرف أخواته) يسجن ويطارد. بينما كان يجلس من يدافعون عن شرف الأمة في بيوتهم. وكنا نرى عذابات الذين يدافعون عن قطعة الأرض التي يملكونها، بينما كنا نجلس في المقهى مع الذين يدافعون عن (السيادة الوطنية)".

أصدقاء كثر فصلوا من عملهم في صراعاتهم مع أرباب العمل، وبقي كثيرون يهتفون ضد الرأس مالية من مكاتب عملهم.

صار كل ذلك، حتى صرنا نظن الرأس مالية كلمة سر يتداولها الموظفون والعمال، كي لا يعرف مالك العمل أنهم يتحدثون عنه، أو ربما مشكلة نفتعلها لأنها لن تكلفنا شيئا، حتى لا نتعامل مع أسباب المشكلة الأساسية.

لا أعلق على هذه الشعارات، لأنني فقدت الإيمان بها، ولا لأنني لم أعد مؤمنا بتغيير العالم، أو فقدت رغبتي بتغييره (وإن دفعت هذه الأسباب كثيرين لقول نفس ما أقوله) لكني أرى هذه الشعارات هروباً بلاغياً من الواقع الحقيقيّ؛ "أفيونا" بمنطق الماركسيين، ولجوءاً لأعداء أسهل وأقل خطرا.

هروب الموظفين والعمال  من الحديث بوضوح عن عدائهم لمدرائهم في العمل، وهروب من مشاكلنا مع السلطة السياسية ورجالاتها. هروب المعارضة من الحديث عن الاستبداد، ومن دورها الحقيقي لا البلاغي. هروب من كون كل نضال وكل عداء، له بذل، وعليه استحقاقات. 




دلالات