عن احتمالات تطور الأوضاع في سورية

عن احتمالات تطور الأوضاع في سورية

07 يونيو 2019
+ الخط -
يتردّد السؤال المقلق دائمًا: إلى أين تسير سورية في المستقبل القريب؟ الرئيس الروسي بوتين هو اللاعب الرئيس، وهو مصمّم على إعادة تأهيل نظام الأسد وتأهيل رئيسه، والعمل على فرضه على المجتمع الدولي، فهو يرى مصلحة روسيا في ذلك، إذ كان تدخّله في سورية قد أعاده لاعبًا رئيسًا على مسرح السياسة الدولية، واستعمل سورية وشعبها حقل تجارب للأسلحة، وحقل رمي وميدان تدريب لعساكره. وبالتالي لن يتخلى عن الأسد ونظامه إلا مجبرًا. ولا يبدو أن ثمّة أحدًا يريد إجباره، فالأميركيون متوافقون مع بوتين، فهم لا يريدون تغيير النظام، وإنما تغيير سلوكه، وهذه عبارة مطّاطة.
يصمم بوتين اليوم على مد سيطرة نظام الأسد (سيطرة روسيا) إلى بقية مناطق ريف حماة الشمالي وإدلب وريف حلب، وحتى حدود مناطق السيطرة المباشرة للقوات التركية في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، على الرغم من صعوبة المهمة، بسبب وجود مجموعات من الفصائل المسلحة المتمرّسة في القتال، وغالبها فصائل متشدّدة، وبسبب وعورة المنطقة الجبلية، ما يرفع تكاليف تحقيق السيطرة على تلك المناطق. وهذا يدفع بوتين إلى ممارسة سياسة الأرض المحروقة، عبر قصف كثيف، يؤدي إلى قتل ودمار وتهجير كبير. وكذلك يحرص على أن يعيد سيطرة النظام على المناطق التي تسيطر عليها قوات حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردية) في حال خروج الأميركيين منها.
على الرغم من غضب أردوغان، يتجاهل بوتين اتفاقاته مع نظيره التركي، والدور الذي لعبته تركيا عبر شراكتها بمسار أستانة الذي أدى إلى تفكيك فصائل عديدة، وإجراء المصالحات، 
وعودة سيطرة النظام على عدة مناطق، بدءًا من مدينة حلب والغوطة ودرعا والقلمون وغيرها. ولذلك، تسعى تركيا اليوم إلى جعل سيطرة الروس والنظام ومليشيات إيران على شمال حماه وإدلب وريف حلب صعبة ومكلفة، وتكبيد القوات المهاجمة خسائر أكبر، بقصد التأثير على موقف روسيا، إذ بسبب عدم ثقة أردوغان بالتزام بوتين بأي اتفاق، لم تفكّك تركيا جبهة النصرة وحلفاءها، وعزّزت قوة الفصائل الأخرى. ولكن يتوقع أن يستمر الروس في نهجهم الدموي هذا للوصول إلى حدود منطقتي السيطرة التركية المذكورتين. ولا يتوقع أن يهاجم الروس هاتين المنطقتين، لما يسببه من إحراج كبير لتركيا، ما قد يدفعها إلى الرد، وإيجاد توتر قد يتطور إلى نزاع تركي روسي، خصوصا مع نمو الغضب التركي من سلوك روسيا التي تتنصل من اتفاقاتها مع تركيا، بالوصول إلى حل سياسي في سورية، في حد مقبول من التوازن.
على الصعيد السياسي الشكلي، يسعى بوتين إلى تشكيل اللجنة الدستورية تحت مظلة الأمم المتحدة بحسب قرار مجلس الأمن 2254. أما عمليًا فيصر على أن يكون أكثر من ثلثي اللجنة الدستورية من مناصري النظام، أو ممن يخضعون لضغوطه، وذلك كي يضمن صوغ دستورٍ لا يبدل في طبيعة النظام، أي محتوى روسي وغلاف أمم متحدة لإعطاء اللجنة صفة الحل السياسي الدولي، وبمجرّد تشكيل اللجنة سيتم تجاهل الهيئة العليا للمفاوضات، مثلما تم تجاهل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، بعد تشكيل الهيئة، وسيتم حصر كامل ما يُدعى الحل السياسي بهذه اللجنة الدستورية. ثم من بعدها تريد روسيا أن تدير وزارة داخلية النظام الاستفتاء والانتخابات على الطريقة السورية المعتادة بنتائجها مسبقة الصنع.
وثمّة متغير قد يؤدي إلى تغيير في مسار الحل السياسي جزئيًا، فعلى الرغم من أن الأميركيين لا يعملون على تغيير النظام ولا إطاحة الأسد، وقد أعلنوا ذلك صراحة، فإن تنفيذ الشروط الـ12 التي أعلنوها ضد إيران، وتهدف إلى قطع أذرعها في المنطقة، وحل مليشياتها، سيشكل تغييرًا في مسارات الصراع ونتائجه في سورية، إذ سيقوي ذلك موقف روسيا في سورية، وسيصبح موقف الأسد أضعف أمام بوتين، بعد انسحاب إيران التي يستقوي بها النظام ويناور بينها وبين روسيا. وفي حال مد النظام سيطرته إلى مناطق شمال غربي سورية ومناطق شرق الفرات، يتوقع أن يضغط بوتين أكثر على الأسد ونظامه، لاتخاذ إجراءاتٍ يسمّيها "حلا سياسيا"، يرضي فئات أوسع من الشعب السوري والمجتمع الدولي، ويحافظ على النظام، ويشرك شخصيات معارضة في الحكومة، وفي مناصب قيادية في الدولة، وقد يدفع مثلًا إلى الإفراح عن المعتقلين وإصدار عفو عام، يشمل الأحكام الصادرة على خلفيات الصراع وبسببه وخلفيات سياسية، ولكن بعد أن يضمن عدم تأثير هذه الإجراءات على استقرار النظام، وأيضًا إيجاد شروط مناسبة لعودة اللاجئين، ولجم سياسات الانتقام ووقف الاعتقال، وتقليص نشاطات إيران، ذات الطابع غير العسكري أيضًا، مثل حل حزب الله السوري، وحل عدد من تنظيماتها وحسينياتها، إذ أنشأت إيران نحو أربعين منظمة خدمات مدنية في سورية، غايتها نشر التشيع وتعزيز النفوذ الإيراني باستغلال حاجة الناس المادية. أي ستصمم روسيا حلًا تستطيع تسويقه بين فئات سورية واسعة، وفي المحافل الدولية، باعتباره حلا سياسيا مقبولا من الأميركيين والأوروبيين ودول الخليج ودول الجوار، بما يفتح الطريق أمام المساهمة في إعادة الإعمار المادي والمجتمعي، وهي مهمة شاقة، فسورية بدون إعادة إعمار بالنسبة لروسيا ربح أسوأ من الخسارة.
في حال بقاء أميركا في منطقة شرق الفرات لن يقترب الروس أو النظام أو الأتراك من تلك 
المنطقة الواسعة، ما سيشجع قوات حزب الاتحاد الديمقراطي، الكردية، على تعزيز وجودها فيها، والتي يقطن معظمها عرب، ولا تزيد نسبة الأكراد فيها عن 15 - 20% من السكان، وسيسرع الحزب في استكمال بناء مؤسسات كيان شبه مستقل بدعم أميركي على غرار شمال العراق، وسيسرع الخطى لبناء تمثيل شبه دبلوماسي، بانتظار ما تسفر عنه الأيام من احتمال إعلان الاستقلال، في تناغم مع مسار مماثل في شمال العراق. وفي حال انسحاب الأميركيين، سيضطر الحزب الكردي إلى الاتفاق مع الروس والنظام للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب، وستعود سيطرة النظام على تلك المناطق، وهو الخيار الذي يخدم مستقبل سورية الواحدة، في مواجهة مشاريع التقسيم والاقتطاع. ولكن الأتراك، من جهتهم، سيستمرون بالضغط لمنع قيام كيان كردي شبه مستقل آخر على حدودهم، ولكن يصعب التكهن بالموقف الأميركي في ما إذا كان سيستجيب للمطالب التركية أم لا، وخصوصا أن إسرائيل تدعم قيام كيان كردي مستقل محاط بمناخ من العداوة، ما يدفع هذا الكيان إلى التحالف مع إسرائيل.
إذًا، يرتبط تطور الأوضاع في سورية، إلى حد بعيد، بالسياسة الأميركية تجاه سورية. ولكن من الصعب الجزم بتوجهات هذه السياسة اليوم أو غدًا، وسيكون من الصعب التنبؤ في أي اتجاه ستسير أوضاع سورية، فإن بقي الإيرانيون في سورية، وبقي الأميركيون في شرق شمالي سورية، ووطّد الحزب الكردي برنامجه الانفصالي في منطقةٍ واسعةٍ بحماية أميركية، وبقيت منطقتا السيطرة التركية في الشمال الغربي، ومضى الروس في هجومهم على ريف حماة الشمالي وإدلب وريف حلب، فسيحدث مزيدٌ من القتل والهدم والتهجير، بينما سيبقى العالم متفرّجًا، وستبقى العقوبات الأميركية وغير الأميركية، وقد يصدر الرئيس ترامب "قانون قيصر" الذي سيضيق الخناق أكثر على سورية ونظامها وشعبها.
وإذا استمر السوريون مسلوبي الإرادة عاجزين عن المبادرة، فإن سنوات سبعًا عجافًا أخرى ستكون السيناريو الأكثر احتمالا في سورية، وستبقى سورية بلا إعادة إعمار، وبدون فرص عمل، وبدون خدمات، يعمّها الفقر والفوضى، وسيبقى سبعة ملايين سوري مهجّرين في الخارج ونحو ستة ملايين مهجر في الداخل، وستسود سورية بيئة طاردة للشباب الباحثين عن فرص عمل وحياة في بلدان أخرى، فهل سيستمر السوريون في سلبيتهم وتشرذمهم وتردّدهم في المبادرة؟ وهل يمكن أن تؤدي مبادرتهم إلى أي تغيير في هذا المصير؟