عصر "السلطوية الجديدة" عربياً

عصر "السلطوية الجديدة" عربياً

22 اغسطس 2020
+ الخط -

لم تكن الأنظمة العربية، التي تشكّلت سماتها وديناميكياتها غداة الحرب العالمية الثانية، ديمقراطية في أيّ وقتٍ، وربما الاستنثاء العالمي الوحيد في مرصد الديمقراطية العالمي هو عربي (وليس إسلامياً مع دخول دول إسلامية إلى المسار الديمقراطي). لكن المفارقة أنّ الأنظمة العربية في الرد على "الهاجس الديمقراطي" الذي تولّد مع لحظة الربيع العربي، ذهبت بالاتجاه المعاكس تماماً نحو مزيد من السلطوية، بما لم تعرفه حتى المرحلة السلطوية السابقة.

ثمّة فرق، إذن، بين "سلطويتين" عربيتين؛ الأولى التي سادت خلال النصف الثاني من القرن العشرين وامتدت إلى لحظة الربيع الأول، والثانية التي بدأت تظهر معالمها مع الانقلاب على الربيع العربي والثورة المضادّة الجديدة، ولا ينفصل النظام الإقليمي العربي، في سماته وقيمه، عن التحولات التي حدثت خلال الأعوام السبعة الماضية.

لعلّ أبرز ما يمكن ملاحظته من تباينات في طبيعتي السلطوية العربية التقليدية والجديدة وسماتهما، يتمثل بانتهاء عصر الأيديولوجيات والأفكار الكبرى والخطابات الرنانة، سواء كان ذلك على صعيد محلي وطني أو حتى على صعيد إقليمي وقضايا قومية وإسلامية!

لم يعد مفهوم "الأمة" في إطاره القومي أو الإسلامي متداولاً في الخطاب السلطوي الجديد، بل أصبح شبه مغيّب، فلا نجد أي خطابٍ رسميٍّ عربيٍّ، مثلاً، يتحدّث عن الإمبريالية والوحدة العربية والقومية العربية، أو حتى استنهاض المسلمين، والقضية الفلسطينية التي كانت عنواناً رئيسياً (وإنْ كان مزيفاً في أحيان كثيرة) لشرعية سياسات هذه النظم بات النظر إليها بوصفها عبئاً ثقيلاً على كاهل الأنظمة العربية، أو مسألة تخص الفلسطينيين وحدهم.

لم يكن حاكم عربي يجرؤ، في أيّ وقت، من أولئك المستبدّين الكبار، مثل جمال عبد الناصر أو حافظ الأسد أو صدام حسين، على أن يقول إنه يتخلّى عن القضية الفلسطينية، أو أن يهاجم الفلسطينيين المتمسّكين بحقهم في الأرض، ولمّا حاول بورقيبة أو الملك عبدالله الأول تقديم خطاباتٍ سياسيةٍ مرتبطة بميزان القوى الدولي والإقليمي للقضية الفلسطينية وسما بالخيانة.

العصر الحالي بلا أي ادّعاء أيديولوجي، أو حمل قضية كبرى قومية أو حتى إسلامية، مما نتج وانعكس، في الوقت نفسه، على حالة النظام الإقليمي العربي الذي وصل إلى حالةٍ غير مسبوقة من التفكك والانهيار، إلى الدرجة التي أصبح الحديث عن أيٍّ من شؤون المنطقة العربية مرتبطاً بقوى إقليمية ودولية؛ من يقرّر في العراق إيران وأميركا، وفي سورية روسيا وإيران وتركيا، وفي ليبيا تركيا وروسيا، ولا توجد أي قوة عربية تجلس فعلياً على الطاولة لمناقشة مصير المنطقة والأمن الإقليمي. 

على الصعيد الداخلي، لا يبدو الوضع أفضل؛ فلا حديث عن تنمية اقتصادية ذات أبعاد اجتماعية، ولا ديمقراطية وحريات وحقوق إنسان، ولا مفاهيم مثل العدالة الاجتماعية وغيرها، ولم يعد هنالك جهاز من المثقفين الكبار يلتفّون حول الرئيس أو القائد يبنون خطاباً للأمة أو الشعب، يتلاشى ذلك كله اليوم، فالخطاب الإعلامي أقرب إلى التهريج والتسحيج وشيطنة المعارضة وتخوينها، بلا أي مضمون أيديولوجي حقيقي، والمثقفون بعيدون تماماً، والحلم أصبح بالأمن اليومي بديلاً عن الفوضى والجوع والحروب الداخلية، على قاعدة إمّا القبول بالوضع القائم بما فيه من جوع وألم وخوف وتسلط واستبداد أو البديل فوضى وفقدان حتى الاستقرار الداخلي، كما حدث في العراق وسورية وليبيا واليمن.

حتى المساحات الجزئية المحدودة من الحريات السياسية والعامة في مرحلة السلطويات التقليدية أصبحت اليوم ترفاً. وقد أخبرني صديق من المعارضين الشرسين خلال حقبة زعيم عربي سابق أنّ تلك المرحلة أشبه بالجنة مع الوضع الحالي، فكلفة المعارضة اليوم غالية جداً، فضلاً عن أنّ التخويف والترهيب أصبحا سلاحاً مصلتاً غير مخفي، فما يمكن أن يتعرّض له المعارض كبير جداً على صعيد أمنه، الأسرة وعائلته وحياته الخاصة.

بالضرورة، لا تنفصل هذه التحولات المقلقة عن أكثر من عامل؛ الأول انتهاء الوصفة التقليدية العربية، عصر الأيديولوجيات والدعاية السياسية والديمقراطية الشكلية، وممانعة الربيع الديمقراطي العربي، والثاني انهيار العراق 2003 والتمدّد الإيراني ثم الأزمة السورية، والثالث دولي؛ الشكوك بالنظام الديمقراطي نفسه عالمياً مع ظواهر مثل دونالد ترامب، بما حمله من مشروعٍ صريحٍ بإعادة ترميم السلطوية العربية، مقابل تقديم تنازلاتٍ جديدةٍ في المشروع الصهيوني وتعزيز الهيمنة الأميركية.

محمد أبو رمان
محمد أبو رمان
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية والمستشار الأكاديمي في معهد السياسة والمجتمع.