عرس العنصريّات الديموقراطي

01 يونيو 2014

سوريون في بيروت أمام سفارة بلدهم ينتظرون التصويت (Getty)

+ الخط -
صوّت أكثر من عشرات الآلاف من السوريّين في لبنان، في انتخابات "المأهاة" التي يروّج لاستكمالها النظام السوري في الثالث من يونيو/ حزيران الجاري داخل سورية. ولن تكون النتيجة التي يتوقّعها الجميع، من أعداء النظام وحلفائه، أقلّ من نسبة تتجاوز التسعين في المئة، ممّن سيصوّت "بالدم حبّاً للأسد"، وربما تخطت هذه النسبة المئة في المئة، مَن يعلم؟ فقد بادرت الجهات اللبنانية، الداعمة للنظام، عسكرياً وسياسيّاً، إلى تسويق ما يحصل على أنّه "عرس ديموقراطي"، والدليل الدامغ على أنّ السوريين كلهم، وليس النازحين فقط، مع "سورية الأسد". ويمكن استخلاص عدّة أمور من المجريات التي رافقت هذا النهار "الانتخابي" الطويل. فمَن دقّق في مشهد الزحف إلى السفارة السورية، لاحظ التفاوت الطبقي في المشهد العام، إذ انقسم "المقترعون" إلى مجموعتين، متمايزتين في تعبير كلّ منها عن استعدادها للتصويت:
كان المشهد يضمّ إما عمالاً تعرّضوا لمختلف الضغوط الترهيبية المباشرة وغير المباشرة، كبثّ الشائعات بعدم السماح لهم بالرجوع إلى سورية إذا لم يشاركوا، أو سوريين وسورياتٍ من طبقات أكثر يسراً بكثير، يمكن تمييزهم عمّن هم في المجموعة الأولى إجمالاً من أنماط لباسهم، ولغتهم وتصرفاتهم، وفي أنهم أتوا عموماً بسياراتهم، مطلّين من نوافذها. كانوا مبتهجين بتجديد البيعة، فيما أدّى زحف مواطنيهم الأفقر حالاً على أرجلهم، صعوداً حتى السفارة، إلى حدوث حالات عديدة من الإغماء، بسبب الحرّ الشديد.
كان استعمال النُخَب الحاكمة الفقراء والمهمشين، في "المهرجانات السياسية"، دوماً، أمراً معهوداً في التاريخ، كما في حالة نابوليون الثالث الذي كان استعماله البروليتاريا الرثّة الباريسيّة مفصلياً في إتمام انقلابه عام 1848 على كومونة باريس، وتنصيبه لاحقاً إمبراطوراً على فرنسا. لكنّ الأمر يختلف هنا في أن نسبة البروليتاريا السوريّة التي قبلت أن توظّف نفسها في هذه الحالة تكاد لا تتعدّى 8% من مجمل عدد السوريين الموجودين في لبنان (حسب أرقام السفير السوري). إنّ استعمال هذا النوع من "التأييد" العلني يعمّم صورة محدّدة عن "السوري المطيع"، بوصفه "السوري الجيّد" (الوطني الوفي.. إلخ). صورة كهذه تخبرنا عن عنصرية نخبويّة، يحملها مريدو النظام وحلفاؤه الذين لا يرون في هؤلاء الريفيين عموماً سوى أفرادٍ في مرتبة أقل من آدميّة. عنصرية ناتجة عن احتقارٍ طبقي، فائق الحدّة، يرى دوماً في الفقراء رُعاعاً يستحقون السحق أو أن يكونوا في المجال العام مطيعين، مصفقين، مهلّلين للزعيم الأوحد: العبد الذليل الممتنّ لعبوديّته.
لكنّ العنصرية النخبوية هذه لا تعيش فقط في أذهان هذا الصنف من النخب السورية، بل تجد كذلك توأمها عند النخب اللبنانية: فها هي الإعلامية مي شدياق، "الشهيدة الحيّة" لحركة "14 آذار" اللبنانيّة، تغرّد على حسابها في "تويتر" بأنّه "أصبحنا بحاجة إلى قرار 1559 جديد لتحرير لبنان من هؤلاء الذين لا يمكن أن تنطبق عليهم تسمية لا نازحين ولا لاجئين"، وإنّه "ما داموا يريدون أن يفدوا بشار الأسد بالروح والدم، فليعودوا إلى سورية، ويقوموا بالواجب، ويريحوا لبنان من هذا الاكتظاظ الديموغرافيّ". في حالة شدياق، نحن، أيضاً، في صدد عنصريّة نخبويّة، تغرف من بئر أيديولوجيا شوفينيّة تجاه "الغريب" (الفلسطيني ثمّ السوري تاريخيّاً) التي ميّزت قطاعاً مهمّاً من النخب السياسية المسيحيّة، الحاكمة منذ السبعينات من القرن الماضي حتى اليوم. ونجد تنويعات من هذا النَفَس العنصري، اليوم، في كلّ أنحاء النخب المسيحية حاليّاً، من الكتائب اللبنانية إلى العونيين والقوّات اللبنانية. لكن، على خلاف ما سبق تاريخيّاً، فإنّ العنصرية تجاه السوريين في واقعنا الراهن لم تعد تمثّل أيّ خاصيّة نخبوية "مسيحيّة"، كما يدّعي مَن يقابل هؤلاء من "يساريين" و"علمانيين"، خصوصاً بعض مَن لم يرث تنطّحهم للشوفينية "المسيحيّة"، إلا ليستعملها حجة إضافية لتبرير ممارسات النظام ضد شعبه اليوم.
 
يجد التبرّم من "الاكتظاظ السكّاني" الذي يخنق صدر مي شدياق، كذلك، صداه اليوم عند شريحة واسعة جدّاً من اللبنانيين، ولو لأسباب أخرى، وهؤلاء مسلمون ومسيحيون من متوسّطي الدخل، وما دون. يشتدّ الأمر بشكل حاد، عند الأُجراء والمياومين والعمال غير المَهَرة اللبنانيين الذين يواجهون منافسة شرسة في تحصيل لقمة عيشهم، من خلال تدفق اليد العاملة السوريّة الرخيصة وعدم وجود شبكة أمان اجتماعية، والذين يردّدون أمامك من دون كلل أنّ "السوريين لديهم كلّ شيء... الأكل والملبس يؤمّن لهم أما نحن فلا يكترث بنا أحد!".
نحن في هذه الحالة بصدد عنصريةٍ تنشأ على أساس التفاوت الطبقي، وعدم القدرة على العيش بكرامة في بلد تغذّيه باستمرار حالة قلق وعدم استقرار اجتماعي، تتحمل مسؤوليتها سياسات النخب النيوليبرالية اللبنانية المستمرّة. ففي هذا المكان بالتحديد، لا يعود يوجد شيء اسمه "شيعة" و"سنّة" و"مسيحيون"، بل هناك قصة قد تسمعها من عامل لبناني كان يعمل في مطعم، ويهدّده ربّ العمل بإنزال أجره من 400 دولار إلى 250 دولاراً في الشهر، أو "الإتيان بعامليَن سوريين ليعملا مكانك".
يوم 28 مايو/ أيار 2014، لم يكن هناك عنصريّة "واحدة" "لبنانية" تجاه السوريين، بل كانت هنالك عنصريات مختلفة، سورية ولبنانية، نخبوية المنشأ أو عواميّة، ومن كل الأديان والإثنيات، عبّرت جميعها عن نفسها بشكل متفاوت في الحدّة والتورية. عنصريات تمتدّ جذورها في واقع طبقي معقّد ومرير. وخلف "العرس الديموقراطي"، الذي يريدون لنا تصديقه، كانت هنالك حرب فعليّة لهذه العنصريات المتقاطعة، المختلفة والمتقاتلة في ما بينها، والتي اتّفقت جميعها على استغلال العامل السوري المهمش، المهجّر، الريفي الأصول، والقابع في قاع المجتمع السوري، والذي قامت باستغلاله على مستوى الجسد ونمط التمثيل بشكل سافر ومهين، إلى أقصى الحدود.
في ليل 29 مايو/ أيار، كان الزبون الجالس إلى الطاولة المجانبة لي في المقهى يقول لصديقه بصوت عال، وبتشفٍ: "هل رأيت كيف ذهب هؤلاء السوريون إلى الانتخابات من أجل بشار؟ هذا شعب كذاب خائن، لا يمكن تصديقه! هكذا ناس لا تستحق سوى أن يحكمها بشار!". اقتربت بعد قليل من محمود، النادل السوري الذي يعمل حتى الصباح في المقهى، وجاء بعائلته من حلب، هرباً من البراميل المتفجّرة. سألته عن رأيه بمَن صوّتوا للنظام من مواطنيه، فنظر إليّ بابتسامة مطمئنّة، قائلاً: مَن صوّت للنظام؟ هل تعتقد أنّ السوريين يمكن أن يصوّتوا لبشار؟ لم يكن ذلك سؤالاً ينتظر مني جواباً، فقد أسرع بعدها محمود بإبريق الشاي إلى أحد الزبائن... لا يقابل هشاشة نفوس اللبنانيين أمام الأعراس الديموقراطيّة سوى صلابة نفوس أمثال محمود النادل.