بورجوازية حزب الله و"السلسلة"

بورجوازية حزب الله و"السلسلة"

17 ابريل 2017
+ الخط -
يلوك حزب الله الكلام نفسه عن "سلسلة الرتب والرواتب" في لبنان، منذ أكثر من خمس سنوات مضت، أيّ منذ بدأت هيئة التنسيق النقابية، بقيادة حنّا غريب، حينها النضال من أجل إقرارها في فبراير/ شباط من العام 2012، فحزب الله إذا ما أخذنا بكلامه العلني، هو داعم للسلسلة، لا بل هو الداعم الأول والوحيد لها من بين أحزاب السلطة. هذا من الثوابت الكلامية لديه. وإذا لم يحصل إقرار "السلسلة"، فالمشكلة دومًا ليست في "الحزب"، قدر ما هي في الآخرين "الفاسدين"، فقد دأَب حزب "المستضعفين"، الإيراني التكليف، على تصوير نفسه بمظهر حزب البروليتاريا الكادحة المهمّشة، ولو أنّ هذه البروليتاريا معرّفة بشكل محض مذهبي في أدبيّاته. وهو بهذا الخطاب إنّما يقف على قدمين، لغوية "خارج" السلطة وسياسيّة داخلها، وذلك كله ليواجه غيلان الرأسمالية "المستكبرين"، الممثّلين عادةً بحسبه في "تيّار المستقبل" ووليد جنبلاط فقط لا غير.
لسنواتٍ عديدة، موّه حزب الله موقعه الطبقي، البورجوازي بامتياز، ببكائيّاتٍ تسيل الدموع الغزيرة عن "محاربة الفساد والهدر"، بينما يترأس كتلته النيابيّة النائب محمد رعد، وهو من كبار التجّار في لبنان. هو الحزب الذي يملك موارد رأسماليّة مرئية وغير مرئية لا تنضب، بدءا من إيران والبقاع وصولًا إلى أميركا الجنوبية وأفريقيا. لكن، من خلال مواعظ "الحزب" الأخلاقية التي تهيج النفوس، وتريح الضمائر في خُطبٍ تلقى في الحسينيّات، وعلى الشاشات، يتراءى لكَ أنّ حزب الله القادر على القتال في كلّ أصقاع العالم، من اليمن حتى لبنان، والذي استطاع أن يجرّ طائفة لبنانية بكاملها على درب الجلجلة الإيراني، والذي يَعِدُ الكادحين بانتصاراتٍ إلهيّة على مدار الساعة، ويبذل، في سبيل ذلك، أرواح البشر قبل الحجر، عاجز تمامًا عن الضغط على خصومه الداخليين في مسألةٍ صغيرةٍ، لا تكاد تُذكر، مثل "السلسلة" التي حولها، فوق كلّ شيء، إجماع "بروليتاري" عابر للمذاهب، قلّ نظيره في تاريخ لبنان.

لكنّ حزب الله، في المطالب الاقتصادية للكادحين، عاجزٌ بشكل تام عن تلبية الوعود، إلى درجة أنّه دومًا يجاري "المستكبرين" في قراراتهم النهائية برفض "السلسلة"، ومن دون أن يزيح عن ذلك قيد أنملة. وهذا أمر يجب تفهّمه، لانّ الحزب لا يحبّ اللعب وحده في "الداخل". في ذلك يقول إنّ أنامله الرقيقة الدقيقة التي تحب الضغط على الزناد في سورية واليمن والعراق، تترفّع عن اللعب الخشن مع "حيتان المال" كما يسمّيهم، وما قد يأتيه ذلك من أوجاع عظيمة لضميره الإنسانيّ مما تقشعرّ له الأبدان. فلسببٍ يجهله كادحو جنوب لبنان، كما شماله، يمكن لحزب الله وتيار المستقبل أن يلتقيا في حوارهما "الأكزوتيكي" ولجان تنسيقهما الغامضة مرّات لا تعدّ ولا تحصى، من أجل "التوافق حول كلّ المسائل وتنفيس الاحتقان"، لكن المسائل المطلبية مثل "السلسلة" لا يمكن أن تعكّر صفو أيّ اجتماع، وهي ليست ضروريّة لكي يتمّ تنفيس أيّ احتقان.
وعندما نصل إلى حركة أمل يصيح الديك وتسكت شهرزاد عن الكلام المباح، فآخر مرّة تمّ فيها حرق "السلسلة" في مجلس نيابي ممدّد له بشكل غير دستوري رئيسه هو رئيس حركة أمل نفسه، كان تمامًا بعد خطابٍ للأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، قبل ثلاثة أسابيع، في ذكرى ولادة فاطمة الزهراء، حيث وضع بند سلسلة الرتب والرواتب في المرتبة ما قبل الأخيرة، وأنهى الخطاب بالقول إنّ قانون الانتخابات النيابية "أوجب من الموازنة والسلسلة ومن تمويل السلسلة". وليس هذا مفاجئا في الحقيقة، فمواقف حزب الله، بوصفه حزباً بورجوازياً، كانت دوما على هذا النحو: "السلسلة" وشعار "محاربة الفساد" الفضفاض يأتي دوما في المرتبة ما قبل الأخيرة، لزوم المساحيق التجميليّة. وعندما يتعلّق الأمر بحركة أمل، هناك اللعبة التقليدية التي تعتمد من الملاكَيْن الشيعيين للتخلّص من المأزق إياه، وهي "الشرطي الجيّد /الشرطي السيّئ": الشرطي الناعم، وهو "الحزب" يقدّم للسجين سيجارة متفهّماعذاباته بعد الضرب المبرّح، فيَعِدُ "الحزب" هيئة التنسيق النقابية "خيرا"، وبانّه "سيبحث الأمر مع حركة أمل"، لكنّ الأخيرة، بمحض المصادفة، تكون دومًا الشرطي الفظّ الذي يقسو على السجين، وهي أيضا، في كلّ مرة، وبمحض المصادفة، لا تقبل ببتّ "السلسلة".
ما العمل؟ قدر أحمق الخطى. "المشكلة هي مع الإخوة في حركة أمل، وليس معنا". هذا كفيل بإبقاء الأمل بإقرار "السلسلة" قريبا، والأمل هو غير "حركة أمل"، وكفيلٌ بتهدئة الآراء النقابية المتشدّدة. وفي مكانٍ ما، فإنّ لعبة "حزب الله"/ "حركة أمل" المزدوجة هذه بخصوص "السلسلة"، كما بخصوص مطالب أخرى، وتربيت "الحزب" على كتفِ يسارٍ ملتحق به، وإشعار نقابيين وحتى شرفاء منهم، كما لو أنّه حزبـ(هم)، يمثّل فعليًّا، وعلى نحو حقيقي جدّا قدر ما هو غير مرئي، أحد أشكال القدرة الهائلة للعنف الرمزي الذي يمارسه النظام
البورجوازي اللبنانيّ في منع تشكيل ثورةٍ مطلبيةٍ واسعةٍ موحِّدة للعمّال والأجراء ضده. هكذا يضمن النظام ككلّ، وفي هذه الحالة عبر حزب الله، إبقاء حتى أكثر ممثليّ الغضب الطبقي تشدّدًا في هيئة التنسيق النقابية حينها أو غيرها تحت السيطرة.
إنّ كون حزب الله حزبًا بورجوازيّا يعني أنّه، في أحسن الأحوال، لا يهمّه إقرار "السلسلة". وفي أسوأها هو لا يريد حتّى أنّ تقرّ. فلدى الحزب مصرفيون ورجال أعمال وتجّار وكبار متعهّدي البناء، أيّ رأسماليون يدورون في فلكه، وهؤلاء أيضًا، بالإذن من شربل نحّاس، جزء من "الهيئات الاقتصادية" التي تتحكّم باقتصاد البلاد. ولنا مثلًا أن نلاحظ كيف أن خطابات "الحزب" فيها كثير عن "الفاسدين"، وعمّن "يكدّسون الثروات". لكن، لا تُذكر فيها أبدًا كلمات محدّدة، مثل المصارف ومتعهّدي العقارات الذين لا يترفّع الحزب عن التعامل معهم، وهو بالطبع لا يريد إحباطهم. وبغضّ النظر عمّا يحصل، فإنّ من مصلحة حزب الله أن يلوك علكة "السلسلة" باستمرار، ما يفيده في إنتاج "وهم تقدّميّ"، ليس بعيدًا كثيرًا عن تقدّمية حزب وليد بك جنبلاط، ما يساعد بتغطية رجعيته فائقة الواقعية التي تظهر أكثر ما تظهر في سورية واليمن والعراق.
فحزب الله، كأيّ حزب بورجوازي سلطوي آخر في التاريخ، يستعمل مطالب العمّال وآمالهم أسلحةً ضدّ مصلحتهم الموضوعية ليخدعهم باستمرار، وبأكثر من طريقة، فيكمل إرسال جزء منهم إلى سورية والعراق وغيرها للقتال تحت رايته، ليموتوا هناك حيث يقتلون مدنيين ويدمّرون مدنًا، وذلك كله بينما يلوك "الحزب" علكة "السلسلة". ولا يساعد على إيقاف هذه المسرحيّة السوداء كيف يتصرّف إزاء هذا كله اليساريون الملتحقون بسياسة "الحزب" الاستعمارية، فيسكتون دومًا عن التصويب على حزب إيران البورجوازي، ومندوبها الكولونيالي في لبنان، ليتخصّصوا في مهاجمة جميع أحزاب السلطة إلا حبيبهم حزب الله. وهم، في كلّ مرّة، لا يضعون حزب الله في مصاف البورجوازيّة الحاكمة، فيطلبون منه بلع علكته القديمة، ويقدّمون له علكة جديدة ليلوكها الأخير أمام الجماهير. لكن الأغبياء لا يلامون على غبائهم، خصوصا عندما يكونون يساريين.