عارياً... وحدك

07 نوفمبر 2015
وحيداً (Getty)
+ الخط -
عارياً تسير، وتعرف أن البرد سيكون عميقاً، وطويلاً، وتعرف أن روحك ستبقى عارية، فهنا لا ملابس على مقاسها بالرغم من أنك تمضي باتجاه البلاد التي تصنع أفضل الملابس، لكن شجر هذه البلاد الجديدة أكثر مما تحتمل الروح، شجرها الكثير الذي يصبح في هذا الشتاء دبابيس في وجه السماء، هو أيضا عار ومرعب، وهذه السماء الغريبة عن سمائك، السماء القريبة والضيقة، سماء الغيوم القاتمة، كيف ستصبح إذن بعد أن تأتي إليها كل القلوب القاتمة جدا، والكبيرة جدا، تسير وتعرف أن هدوء الوجوه هنا، تنظيم حياتهم، عملهم، نومهم المبكر جدا، مدنهم التي تفرغ من إلقاء التحية، ومن الألفة، كل هذا هو أضيق بكثير من روحك ولن تستطيع أبدا أن تلبسه وتستر عريك.
الأطفال هنا سيبقون يرمون الحجارة الصغيرة على نوافذ ذاكرتك، سيكسرونها بفرحهم الطفولي، بطفولتهم الطبيعية المشتهاة، برائحة شعرهم، بوجوههم، بشغبهم الذاهب إلى المدرسة، سيكسرون نوافذ وأبواب ذاكرتك، سيدخلون إليها، وسيعبثون بصور كل الأطفال الذين تركتهم هناك في البرد، في الخيمة، في القرية، في المدرسة التي تنتظر صاروخا قبل جرس الفرصة، الأطفال الذين ينامون في القبور، ينامون ويلعبون، كلهم سيعبث أطفال المدينة الجديدة التي أنت فيها بصورهم، سيدخلون ذاكرتك كلها، سيفتحون الصندوق القديم فيها، وسيجدون صورك وأنت صغير حين كنت في بلادك تلك تتعلم الكلام، الكلام كم كان طيبا وحقيقيا وجميلا هناك الكلام ، كم كان قريبا من روحك، كم كان دافئا الكلام الذي يجعلك هنا عارياً تماما، فالكلام أيضا هنا ضيق جدا ووحيد.


اقرا أيضاً: الدرج الوحيد


عاريا تسير، وتعرف أن الأمهات هنا أيضا سيقمن بفرد عمرك الذي حاكته لك أمك هناك، سيفردنه كله، سيمررنه فوق البخار الساخن كي يستقيم، وسيعدن حياكته لك، لكنك تعرف أنك لن تستطيع أن تلبسه، فعمرك الجديد هذا سيكون أيضا ضيقا كثيرا عليك.
وجه الأمهات سيعيد لك وجهها هناك، أمك التي ودعتها، والتي رمت على كتفك دموعها، تسير وتعرف أنك لن تلبس هنا إلا غيابها البارد والمثقوب، غيابها الذي سيتكرر في حركة كل امرأة تشبهها، في مشيتها المتعبة، في خطوتها الصعبة، وستمزقك أيدي الأبناء الذين يمسكون بأيدي أمهاتهن، الأمهات اللواتي يلبسن هنا الملابس الأنيقة ويظهرن بالشعر القصير والمصبوغ جيدا كلهن سيعيدن لك شعرها الشائب تحت غطاء رأسها ونظرتها التي شابت معه وهي تنتظرك، كل الأمهات هنا سيحكن لك مرارا ثوب غيابها عنك وهذا الوحيد الذي سيكون مناسبا تماما، سيكون ثوبا من العري الخالص والنقي.
تسير وتعرف، لكن وجه طفلتك الصغيرة حين تنهض الطائرات قبلها يقول لدمك :سر؛ أخوك الذي تناثر يقول لك: سر؛ السجن الذي لم يزل يسجنك بمجرد ذكر اسمه يقول لك: سر؛ النقاش الذي صرخت به قبل سنتين أنك لن ترحل يقول لك: سر؛ وأبوك الذي ذهب ليسكن بجانب قبر أخيك المتناثر كان سيكتب في وصيته: سر؛ ربما شجرة البيت وحدها كانت تعارضك فهي بطبعها تعرف أنك يا أيها السوري الأول، السوري الأوحد، ستسير عارياً، وتعرف أن البرد سيكون عميقاً جداً وطويلاً.

اقرأ أيضاً: في حب يوسف إدريس
دلالات
المساهمون