صورة الرّئيس

01 يناير 2015
+ الخط -

كان، على مدى قرون، الحاكم بأمره، فهو السّلطان، وهو الخليفة، وهو الملك، وهو الرّئيس، وهو صاحب الجلالة، وصاحب الفخامة، وذو الفضل، وذو المجد، وسليل الأسرة العليّة، وصاحب الطّلعة البهيّة، وهو القائد الملهم أو المجاهد الأكبر، وهو الزّعيم القومي، والقائد الأممي، والفارس الذي لا يُشق له غبار، وهو في مأمن من الخطأ، وفي منأى عن الزّلل، وفي القرب منه نعمة، وفي البعد عنه نقمة، ومعارضته بدعة، ومناقشته فتنة... كذلك هو الحاكم في أغلب مراحل تاريخنا السياسي، في الفضاء المجتمعي العربي والإسلامي، فقد رسّخوا في وعينا، على مدى قرون، أنّ الحاكم فوق النّقد، وهو صاحب الملك، وذو الصلاحيّات التي لا تكاد تُحدّ بحدّ أو تُردّ بقول... وقد جدّ عدد من المنظّرين للسّلطان في تعديد النّعوت الملحقة به، وتصنيف الكتب في التّشريع لوجوب الطاعة المطلقة للحاكم دفعاً لأسباب الفتنة، ومحافظة على البيضة، وضماناً لسلامة الأمّة. وجدّ آخرون في تنزيهه، وتراقوا به إلى مدارج العصمة، وحكم بعضهم بالجبر، وادّعى أنّه ظلّ الله في الأرض، وهيمن الحاكم بقوّة العسكر، أو بعصبيّة القبيلة، أو بحجّة الوراثة على مقدّرات البلاد ومُنْجَزات العباد.

وجسّد واقعنا السياسي صورة الديكتاتور بامتياز، وأعاد إخراجها ونشرها في عدّة أمصار وحقب، حتّى انحبس التّفكير في السياسة عندنا، وتراجع حسّ النّقد وحقّ الاختلاف، وغلبت الأحاديّة على التعدديّة، وساد الانغلاق بدل الانفتاح، ما أسهم في تكريس علاقة عموديّة، قهريّة بين الحاكم والمحكوم. وما كانت حقبة ما تسمّى دولة الاستقلال أفضل حالاً، فقد تولّى أمور العرب والمسلمين حكّام ادّعى أغلبهم امتلاك الحقيقة، فأمسكوا بكلّ السّلطات، ونصّبوا أنفسهم أوصياء على النّاس، واحتكر أغلبهم القرار عقوداً، فصادروا الحرّيات، وقاموا على الشّأن العامّ، وبخسوا المبدعين، وحاربوا المفكّرين، وجعلوا كلّ مؤسّسات الدّولة الوطنيّة الناشئة خادمة للسّلطان، ما أسهم في قيام دولة شموليّة، تدّعي الحداثة وتمارس التخلّف، وترفع شعارات الدّيمقراطيّة لتغطّي على نهج الأحاديّة والإقصاء، وتفرغ العلمانيّة من بعدها التعدّدي التّنويري، لتجعلها سيفاً مسلّطاً على كلّ مخالف، واتّسعت الهوّة بين الرّئيس والمرؤوس إلى حدّ القطيعة، فأصبح الحاكم وبطانته يمثّلون طبقة مستقلّة بذاتها، وبقيّة الشّعب طبقة أخرى ليست إلاّ كياناً هامشيّاً، أو ملحقاً من ملاحق السّلطان.
والملاحظ، بعد ثورات الرّبيع العربي، أنّ صورة الرّئيس قد تبدّلت على نحو جذريّ، في بعض البلدان العربية، فقد كفّ الرّئيس عن كونه كائناً فوق النّقد، وعن كونه شخصاً ملائكيّاً متعالياً ذا قدسية، ليصبح كائنا بشريّاً عاديّاً، يجتهد فيخطئ ويصيب، ويُؤخذ منه ويُردّ عليه، فقراراته قابلة للنّقض والمراجعة، وصلاحيّاته محدودة وأفعاله معدودة وتصرّفاته محلّ نقد ومراقبة. وقد أسست تونس، مثلاً، بعد الثورة، وإلى حدّ كتابة هذه الأسطر، لنمط جديد من العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأبدعت صورة جديدة للرّئيس الذي لا يدّعي امتلاك الحقيقة، ويقبل النّقد، وينفتح على النّاس، ولا يستولي على السّلطات جميعاً، بل يتحرّك في إطار صلاحيّات مخصوصة، يضبطها الدّستور ويحدّدها البرلمان.
صراحة، أصبحت أستعذب عدم رؤية صور الرّئيس في كلّ مكان، في مكاتب الموظّفين ومداخل المدن وعلى واجهات المحلاّت التجاريّة، وفي الصّحف اليوميّة ومفتتح النّشرات الإخباريّة. لقد نزعت الثّورة صفة القداسة عن الرّئاسة، وأصبح المواطن كائناً يملك مصيره، وغدت الرّئاسة مؤسّسة خادمة للشّعب، لا العكس، فارتفع الخوف من القلوب، وفُتحت القصور للمواطنين، حتّى يعلموا أن لا فضل لرئيس عليهم، بل الفضل للشّعوب التي تصنع التاريخ وتُبدع الرّؤساء على النّحو الذي تريد. من هنا، كانت الثّورة رافداً من روافد تجديد العقل السياسي العربي، وعاملاً من عوامل تحرير إرادة النّاس المغلولة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.