شرعية البندول

16 مارس 2015

تمارس السياسة لعبتها في تكييف المفاهيم (Getty)

+ الخط -

جُل المشكلات والصراعات القائمة، حالياً، في المنطقة العربية، تدور حول "الشرعية" بمختلف أشكالها ومضامينها. وعلى الرغم من أن تعريفات الشرعية واضحة، وليست محل خلاف، لا في المفهوم، ولا في الإجراءات، إلا أن السياسة تمارس لعبتها في تكييف المفاهيم، وليّ ذراع وتطويع الإجراءات، بما يتفق ومصالح وأهداف كل طرف. ولا أدري هل هو أمر جيد أم سيئ أن تكشف معضلة "الشرعية" ازدواجيات عربية كثيرة في التعامل مع الأوضاع والتطورات، سواء بواسطة النظم الحاكمة، أو حتى من الشعوب نفسها. فالنظم التي ترفض أي تدخل خارجي في شؤونها، وإن كان سياسياً أو حتى إعلامياً، وتعتبره تدخلاً سافراً مرفوضاً، هي نفسها التي تتدخل عسكرياً في دول مجاورة، تحت عنوان حماية الأمن القومي، وتشرعن هذا التدخل بزعم موافقة سلطات الدولة المعنية، ممثلة في حكومة "شرعية". وهو منطق فيه مغالطة مركبة، فالتضرر من وضع داخلي في دولة مجاورة لا يبرر الافتئات على سيادتها، وتجاوز سلطة الحكم فيها، ما لم يصل الخطر إلى حد لا يحتمل الانتظار لاستيفاء شروط تلك الخطوة ومتطلباتها. وهنا، يظهر المستوى الثاني من الغلط المركب، ذلك أن "شرعية" مؤسسات الحكم في تلك الدولة المعنية يجب ألا تكون محل خلاف أو تشكيك. وفي الحالة الليبية، البرلمان المنتخب فاقد للشرعية، بعد أن حكمت المحكمة الدستورية العليا ببطلان قانون الانتخابات التي جاءت به.

وعندما يتذرع التدخل بمبدأ الضرر والدفاع عن النفس، لاكتساب شرعية، فهذا يفتح باباً خطيراً قد يفضي لاحقاً إلى "شرعنة" أي تدخل إسرائيلي في سيناء، بحجة تعرض أمنها للخطر، بواسطة جماعات جهادية مسلحة هناك. أو التدخل في أي منطقة أخرى داخل مصر، إذا تعرض زائر أو مقيم إسرائيلي فيها للقتل أو الاختطاف.

من الازدواجيات العربية الأخرى في مسألة الشرعية، إسقاط شرعية النظام السوري، بسبب قمعه ثورة شعبية نقية، قبل أن تتحول إلى حرب شاملة، هي نفسها الشرعية القانونية التي تتمتع بها حكومات عربية كثيرة، على الرغم من أن معظمها جاء عبر انتخابات شكلية، وفقاً لقوانين ودساتير يعلم الجميع كيف صيغت وكيف أقرت. وكما شهد الجميع بشفافية الاستحقاقات الديمقراطية التي مرت بها تونس من الجمعية التأسيسية، وحتى انتخابات الرئاسة الأخيرة، هناك إجماع على نزاهة وصدقية الانتخابات التي جاءت بمحمد مرسي رئيساً لمصر. لكن، على الرغم من ذلك، لم يتمسك العرب بشرعية مرسي، كما يتمسكون حالياً وبشدة بشرعية عبدربه منصور هادي في اليمن، على الرغم من أن هادي يدين في رئاسته للخطة الخليجية، ولانتخابات كان مرشحهاً الوحيد.

حتى تلك الازدواجية ليست ثابتة، فالشرعية التي نزعتها جامعة الدول العربية عن نظام بشار الأسد، لم تمنحها للكيان الممثل لقوى المعارضة. وتقترب الجامعة وغيرها من المؤسسات الرسمية، في بعض الدول العربية، من إعادة منحها لنظام بشار وبعضها يتعامل معه بالفعل بهذه الصفة، لو بشكل غير رسمي. ما يجعل حديث علماء السياسة عن أنواع الشرعية وتطور أنماطها طلاسم، لا معنى لها لدى العرب الذين اخترعوا تلون الشرعية، وازدواجية معاييرها، وامتلكوا قدرة خارقة على التقلب بين منحها ومنعها. فصار اكتسابها وفقدانها الحالة نفسها لا يحتاج سوى قرار يعلن في جزء من الثانية، بينما يجتمع النقيضان من حالة إلى أخرى في الوقت نفسه.

حديث الشرعية يطول، وتختلط فيه السياسة بالعلم والمعايير بالأهواء. لكن، المؤكد أن ابتذال المصطلح، فهماً وتطبيقاً، جعل الشرعية جزءاً من مشكلات العرب، على الرغم من أنها أساس الحل والعقد في كل الدنيا، بما فيها لدى الأعراف القبلية والتقاليد البدائية، بل هي المرجعية والأصل الذي ترد إليه الخلافات. الشرعية الحقيقية ليست مطية لمطامع أصحاب المصالح والمتقلبين كالبندول.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.