منذ وصول الرئيس التونسي الجديد الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج، تتفاوت التقديرات حيال الرجل وحزبه وحكمهما المنتظَر من زاويا ثلاث: لناحية اعتبار وصوله إلى الرئاسة امتداداً للثورة ولإنجازاتها، أو لجهة الدعوات لإعطاء الرئيس الجديد وقتاً كافياً قبل الحُكم عليه، أو أخيراً اعتبار نجاحه انتخابياً ضربة قاسية للثورة. لكنّ خطاب السبسي في الاحتفال بالذكرى الرابعة للثورة، يوم الأربعاء الماضي، كان في نظر كثيرين، خطاب تهميش شهداء الثورة بامتياز، واقتصار التكريم على "شهداء الإرهاب"، وأبرزهم الراحلَين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
تهميش يشكّل بالنسبة لأوساط واسعة النطاق في تونس، عنواناً لنظرة الرجل إلى الثورة وشهدائها، وهو ما قد يكون جائزاً تعميمه على ما قد تحمله سنوات رئاسته من سياسات عامة لا تتلاءم مع إنجازات الثورة وتضحيات أهلها، وفق ما يراه معارضون للسبسي. وقد تلقّى الرئيس الجديد، في خطابه الأبرز منذ وصوله إلى الحكم، أربع رسائل مباشرة؛ الأولى أصحابها هم عائلات الشهداء الذين وجهت إليهم الدعوة لحضور مراسم الحفل الرسمي، حاملين معهم صور أبنائهم وأزواجهم الذين فقدوهم، سواء في أيام الثورة أو عند المواجهات مع المجموعات "الإرهابية". رفعوا أصواتهم عالية، واعتبروا أنفسهم قد أهينوا في ذكرى فقدان أحبابهم عندما كُرِّم غيرهم، ولم يقع الاهتمام بهم رغم ظروفهم الصعبة. لم يكن يهمهم هوية الذين قُدمت إليهم الأوسمة، ومن بينهم أسرتا بلعيد والبراهمي، فهم يعتبرون أنه لولا أبناؤهم الذين استشهدوا، لما كانت هناك ثورة، أو انتخابات ستؤدي إلى وصول السبسي أو غيره إلى السلطة. هكذا تحدثت الأمهات بكل حرقة.
من حق المدافعين عن رئيس الجمهورية الجديد أن يبرئوا السبسي، لأنه لا يزال في أيامه الأولى من تحمل المسؤولية، لكن ما حدث كشف بوضوح أن ملف عائلات الشهداء لم يغلق حتى الآن رغم مرور أربع سنوات على الثورة، ورغم تعاقب خمس حكومات متتالية.
الرسالة الثانية جاءته من الأوساط النقابية وقد أثارت، ولا تزال، الكثير من الجدل: لقد قضى التونسيون يوم احتفالهم بعيد الثورة من دون نقل عمومي. السبب أن عمال شركات النقل العام قد قرروا الدخول في إضراب فجائي بسبب تأخر حصولهم على منحة آخر السنة. وضع أدخل البلاد في حالة اضطراب واسعة، ما أحدث أضراراً بالغة بالمواطنين، وخاصة الفقراء منهم، الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن قضاء حوائجهم أو العودة إلى منازلهم. لم يقف الأمر عند ساعات محدودة، وإنما تحول إلى إضراب متواصل رغم الدخول في مفاوضات مباشرة مع الحكومة التي طلبت منهم الصبر حتى تتم تسوية الجانب المالي، غير أن نقابة النقل رفضت العودة إلى العمل إلى أن يتقاضى العمال منحتهم.
هذا الإضراب عكس مشكلة أكبر تتعلق بطبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بين الحكومة المقبلة و"الاتحاد العام التونسي للشغل". فهذا الإضراب لم تتبنَّه المركزية النقابية، وهو يؤشر إلى وجود انفلات نقابي خطير من شأنه أن يهدد الدولة، ويجعلها عاجزة عن القيام بدورها الضابط للشأن العام. الرسالة الثالثة صادرة من داخل حزب الرئيس، إذ لا يزال الجدل مستمراً حول موقف "نداء تونس" من مشاركة حركة النهضة في الحكومة، إلى جانب مسائل أخرى خلافية. هكذا وجد السبسي نفسه أمام صعوبة لفرض الانضباط الحزبي بين كوادره، فتعددت الأصوات المشاكسة والمتمردة على قراراته، وهو ما أخذ يزعجه ويثير قلقه وغضبه أحيانا، وقد يعطي انطباعا بأن حزب "نداء تونس" قد يكون عرضة، وهو في السلطة، لكي ينقسم أو يشهد مزيداً من الصراعات الداخلية بين كوادره الأساسية الطامحة إلى ممارسة الحكم.
الرسالة الأخيرة أمنية بامتياز، وقد تجلت بوضوح في تعدد الاعتداءات الجسدية على عناصر أمنية أو عسكرية، قام بها مجهولون. ويبدو من خلال تكرر هذه الاعتداءات أن الخلايا النائمة المرتبطة بالتنظيمات "الإرهابية"، قد تلقت إشعاراً بأنه نظراً لإحكام القبضة الأمنية المستمرة، من واجبها أن تعتمد على إمكاناتها الخاصة، وذلك باللجوء إلى مختلف أنواع الأسلحة البيضاء، والقيام بهجمات متفرقة على العناصر الأمنية والعسكرية التي تتنقل بشكل فردي، وهو أسلوب جديد يفرض على السلطة التعامل معه وفق خطط بديلة، حتى لا يستفحل ويكثف من مخاطر المرحلة المقبلة.
هذه ليست سوى عينات تؤكد أن بداية حكم الرئيس الباجي قايد السبسي لن تكون سهلة، وأن التسعين يوماً الأولى التي تتعرض فيها الحكومات والهيئات القيادية الجديدة للاختبار، ستكون صعبة نظراً لضخامة التحديات، في ظل مطالب كثيرة للتونسيين الذين اعتقدوا بأن تغيير رئيس الجمهورية والحكومة سيكون بمثابة المفتاح السحري الذي قد يخفف عليهم ثقل أعباء المرحلة الانتقالية.