ذكرى رحيل الجابري: مواجهة مستمرة مع العروي

03 مايو 2014
عمل لـ علي أسيري
+ الخط -

اختار محمد عابد الجابري (1936-2010) منذ بداية انخراطه في الكتابة والبحث والعمل السياسي في ستينات القرن الماضي، مواجهة القارة التراثيّة، بحكم أنّه كان يدرك جيداً الثقل الذي يمارسه التراث الثقافي الإسلامي في الحاضر العربي، حيث تهيمن لغات وثقافات قادمة من أزمنة تجاوزها الزمن، الأمر الذي يؤدي إلى محاصرة إمكانية الإبداع والتجديد في الثقافة والمجتمع.

ضمن هذا الإطار، استخدم الجابري بحس سياسي معلن مجموعة من مفاهيم الفلسفة الحديثة والمعاصرة، متوخياً هدفاً مركزياً، يتمثل في نقد آليات العقل العربي في التفكير والنظر، قصد إيجاد مخرج يسمح بتفكيك حصون التقليد، ويفتح أبواب التاريخ أمام الثقافة العربية، لتتمكن من الانخراط الإيجابي والتفاعل مع مختلف مكاسب التحديث والتقدم.

حرص الجابري -بحكم تكوينه الفلسفي وحسّه السياسي- على أن يدافع عن التحديث من زاوية لا تُقصي الموروث كليّة، ذلك أنه لا انفصال في نظره عن الذات في مختلف تمظهراتها إلا بالتواصل معها. وخيار التواصل لا يكون بالضرورة خيار تبعيّة وخضوع، بل قد يكون عن طريق الفحص والمراجعة والنقد، الطريق المناسب لتحقيق الانفصال المتدرج والتاريخي.

تَعَرَّض مشروع الجابري في حياته لمواقف متناقضة، تراوحت بين حدّين متباعدين، تمثل ذلك من جهة باحتفاء تيارات فكرية عديدة بالمشروع ومقدّماته، وطرائقه في النظر والعمل. في حين تعرّض من جهة أخرى، لانتقادات عديدة وسمت المشروع بالمحافظ والتوفيقي، معتبرةً أنّه يكرِّس خيارات فكرية وسياسية أقرب إلى الخيار السلفي.

ولأننا نريد أن نفكّر في مشروعه (بمناسبة مرور أربع سنوات على رحيله) من زاوية أخرى، فإننا نتجه لتجاوز الموقفين معاً، محاولين بناء نموذج الحوار الذي دار بينه وبين مشروع آخر يجايله، ونقصد بذلك مشروع عبد الله العروي (ولد 1933). وما شجعنا على القيام بهذا التمرين هو إحساسنا بأن العروي تبنى في الآونة الأخيرة دفاعاً مستميتاً عن اللغة العربية، ذكّرنا بمواقف الجابري من العربية ومستقبلها، وذلك رغم أننا نعرف الاختلافات القائمة بين مشروعيهما في الإصلاح والتحديث.

 
نقد العقل العربي بين الحداثة والتاريخ

يعرف المتابعون للفكر المغربي المعاصر، المسافة القائمة بين مشروع "نقد العقل العربي" ومشروع عبد الله العروي "في الدفاع عن الحداثة والتاريخ". كما يعرفون أن ما ركَّبه أحدهما من أعمال يختلف عن مجمل ما ركَّبه الآخر. نتأكد من ذلك من من مواقفهما المباشرة، وغير المباشرة، وأعمالهما معاً. لكننا نعرف أيضاً أنهما يلتقيان في الأفق الجامع لتصورهما كليهما في موضوع النهوض العربي.

كان الجابري، وهو أول من أعلن في منتصف سبعينات القرن الماضي موقفاً محدداً من تاريخانية العروي، كما تبلورت في أعماله الأولى، وخاصة "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" (1967)، و"العرب والفكر التاريخي" (1972)، حيث كتب سلسلة من المقالات في جريدة "المحرر" (1975) حاول فيها بناء موقف نقدي من خيارات العروي الفكرية والسياسية.

ورغم أن العروي لم يرُدّ بشكل مباشر على مقالات الجابري؛ إلا أنّ أعماله المتواصلة لا تزال تخاصم التصورات السلفية للتراث، وتنتقد بحدة نزعات التوفيق والانتقاء.

إننا نعتقد أنّ اختلاف نظرة كلّ منهما في الجواب على سؤال النهضة وكيفية تجاوُز التأخر، بل واختلافاتهما في كيفيات التعبير عن إشكالات الفكر ومفاهيمه، تعتبر مسألة طبيعية، إضافة إلى كونها مشروطة بمعطيات تتجاوز الأفراد الذين يجسدونهم في نصوصهم ومنتوجاتهم الخطابية. هذا هو معيار الاختلاف الفعلي في نظرنا، وهو معيار يصبح فيه الفرد المشخّص حالة قابلة للفهم الموضوعي، بحكم تعدد الخيارات أمام الفاعلين في قضايا التاريخ المعقدة.

يرِد اسم الجابري في خاتمة كتب المفاهيم التي كتب العروي، ونقصد بذلك مفهوم العقل، "مقالة في المفارقات" (1996)، حيث يرد الاسم في سياق لم تذكر فيه الأسماء، وإنّما المواقف والخيارات. ويرد اسم الجابري أيضاً أثناء نقد العروي لنزعات الفكر التوفيقية، التي تواصل انتعاشها وانتشارها في فضاء الفكر العربي المعاصر. إنه يرِدُ ضمن تيار كبير دشنه الشيخ محمد عبده، وقدَّم في إطاره المواقف الأكثر تفتحاً وانفتاحاً على العصر، وهذا الأمر يعني في نظر العروي، أنه آن الأوان للقطع كليّة مع لغة المخاتلة في مواجهة الماضي، وفي التفكير في وصل الحاضر والمستقبل بالماضي. فلا خلاص من التأخر في نظر العروي إلا بإعلان القطيعة مع الماضي ومنتوجاته الرمزية.

لم يتجاوز الجابري، في تصور العروي وبناء على معطيات نص "مفهوم العقل"، اختيار الشيخ محمد عبده، وهو المؤسس لأول حركة توفيقية متفتحة على مكاسب العصر، وساعية لتمثّل هذه المكاسب بدمجها في الذات، الحريصة على هويتها حرصها على التجاوب الإيجابي مع رياح التغيير العاتية.

ولا يَرِدُ اسم الجابري -كما قلنا- في النص، لكن اختياراته تحضر كمواقف يتجه عمل العروي لمحاصرتها. فالعقلانية الخلدونية (ابن خلدون) رغم كل مزاياها داخل فضاء عصورنا الوسطى؛ تظل محدودة بنظام الفكر الإسلامي. وما ينطبق عليها ينطبق على الرشدية (ابن رشد)، وعلى مختلف التوجهات الفكرية المتميزة بعقلانيتها العالية في الثقافة الإسلامية، في عصورنا الوسطى. لهذا السبب، يستحيل، في نظر العروي، أن نستفيد من عقلانية الاسم والأمر والمطلق، عقلانيات تراثنا. والحل في تصوره يتطلب الإقرار بأن عقلانية الأزمنة الحديثة تتطلب القطع مع الموروث الثقافي، من أجل التمكن من استيعاب ما هو متاح اليوم للبشرية جمعاء.

 

توفيقية تاريخية ولا تاريخانية نخبوية

لا وجود لذات مغلقة في التاريخ، ولا وجود لتاريخ غير مختَرَق، إن التصورات التمجيدية للذات هي التي تتصورها ذاتاً خالصة، فتعزل نفسها عن صيرورة تاريخها. ونحن عندما نتأمل صيرورة الذات، نكتشف الألوان والأشكال التي تتخذها خلال مسيرتها. وفي هذا السياق، تصبح الذات مُطَالَبة بوعي عمليات إعادة إنتاجها الحاصلة في الأزمنة الحديثة. وذلك بالصورة التي تتيح لها تَملُّك مكاسب محددة، واحتضان اختيارات تسمح لها بتركيب تأريخها داخل الزمان، بطريقة تُغنيها وتُطورها، وتَهَبُها القدرة على الاستمرار والتحول.

في سياق آخر، لا يرد فيه اسم العروي رسماً (رغم وروده كخيار في النظر) يتحدث الجابري في خاتمة "بنية العقل العربي" عام 1986 (الجزء الثاني من "نقد العقل العربي") عن سهولة المواقف الجذرية في التاريخ، مستخدماً لغة الاستعارة، وذلك في قول يخاطب فيه أصحاب الاتجاهات الراديكالية في مسألة الموقف من التراث ومن الماضي، أي الموقف من دعاة القطيعة في التاريخ، حيث يقول: "ما أسهل الهروب إلى الأمام"، أي ما أسهل اتخاذ المواقف التي تتجنب رؤية الواقع كما هو، فتهرب إلى الأمام، وتتخلى عن التاريخ تحت اسم مساعي ومبادرات تأسيس التاريخ الجديد. التاريخ الذي يقطع مع الموروث في كليّته، ليتبنى مكاسب الآخرين في الثقافة وفي التاريخ نفسه.

إنّ الموقف السليم في نظر الجابري هو الموقف الأكثر تاريخية، أي الموقف الذي لا يُغفل طبيعة التناقضات التي توجّه الواقع، ويسعى لاستيعابها انطلاقاً من بناء المواقف المعتدلة والاختيارات التي لا تفرّط في الذات، حيث لا انفصال في نظره دون وصل.

نجد أنفسنا فيما سبق أمام صورتين متناقضتين يُصَوَّبُ فيهما النظر نحو زاوية محددة؟ ألا يمكن أن نرى في الصورتين عناصر إيجابية تؤشر إلى صعوبة ما، وتعقّد القضايا الخلافية في كتابات المفكرين؟ ألا يمكن أن نرى في الاختلاف المرسوم في الصور السابقة، إطاراً للتفكير في بناء نتجاوز فيه كلاً منهما؟ ثم ألا يمكن أن نرى في جوانب عديدة من صور الصراع التاريخي في مجتمعاتنا اليوم ما يقابل الصورة التي تملأ أعمال المفكرَين؟

إذا كانت صورة الجابري في مشروع العروي "تكرارية توفيقية"، وصورة العروي في كتابات الجابري "لا تاريخية نخبوية"، وهو ما نتصوره ونحن نتأمل اليوم أعمال كلّ منهما وهي تعكس جوانب من صورة الآخر، ونتأمل في الآن نفسه ثنائية الصورة في مشهدنا السياسي؛ ألا يمكن حينها أن نجد في الواقع التاريخي الإطار القادر على احتضان الصورتين معاً؟

نقرأ في بعض المعارك القائمة في الحاضر العربي، ما يرجّح خيارات أحدهما على الآخر. فللاستقطاب السياسي الذي يملأ اليوم أغلب المجتمعات العربية، ممثلاً في أشكال حضور خيارات الإسلام السياسي وبدائلها التحديثية والديمقراطية؛ عناوينُ كبرى موصولةُ بوشائج قربى مع فكر الرجلين، وهي اليوم في حاجة إلى المراجعة والنقد، لعلنا نتمكن من تخطي التقابلات الحديّة بين المشروعين.

يواصل العروي بحضوره ودفاعه المستمر عن ضرورة الانخراط في التاريخ الكوني؛ تعميق خياراته الحداثية، فيترجم نصاً لروسو يدافع في مقدمته عن الدين الطبيعي. لكن من منّا يستطيع إنكار التفاعلات الحاصلة بين مشروع الجابري في الإصلاح، كما شخصّه بقوة في "العقل السياسي العربي" (1990)، وبين ما يجري من تطور في الثقافة العربية في موضوع الموقف من التراث؟

نطرح هذا السؤال لأننا نعتقد بأن تحولات الأفكار في التاريخ تخضع لعوامل عديدة، من بينها أشكال المثاقفة التي يصعب إدراك مختلف أوجهها بوضوح ودقة، كما يصعب نفيها، وضمن هذا الإطار، فكّرنا ونفكّر في نمط التفاعلات التي ما فتئت تنسجها نصوص الجابري في نقد العقل العربي مع أسئلة ومعضلات التحول في مجتمعنا وثقافتنا وخياراتنا السياسية.

المساهمون