دروس لاتـينية

دروس لاتـينية

03 يوليو 2014

خمسة رؤساء من أميركا اللاتينية بقمة الأوروجواي (يوليو/2013/فرانس برس)

+ الخط -


 
كان مشهداً لا يُنسى في منتصف العام الماضي. رؤساء خمس دول لاتينية يجتمعون في مونتيفيدو، عاصمة الأوروجواي، موجهين رسالة شديدة اللهجة للولايات المتحدة وأوروبا، على خلفية منع دول أوروبية طائرة رئيس بوليفيا، إيفو موراليس، من المرور، بعد اشتباه في أنها تقل إدوارد سنودن، العميل الأميركي السابق الذي كشف فضيحة تجسس أميركا على العالم. قال أحد هؤلاء القادة إن على أوروبا أن تعرف من هو التابع الآن (في إشارة إلى تبعية أوروبا لأميركا)، كما أصدر القادة بياناً، ذكروا فيه أن أميركا تتجسس على العالم، ليس بهدف ملاحقة الإرهاب، وإنما لمعرفة المخططات المالية والعلمية للدول!. 
هذا المشهد يحضر اليوم بهذا الشكل، لأن دول أميركا اللاتينية انتقلت إلى الديموقراطية والحكم الرشيد، عبر إنجاز عالمي ملهم وبديع. قبل عقود قليلة، كانت هذه الدول ترزح تحت نير ديكتاتورياتٍ عسكريةٍ، مدعومة من الولايات المتحدة، جعلت من هذه البقعة أشد أماكن العالم رضوخاً للحديد والنار. بعد الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة قد أخذت تثبت أقدامها في بقية العالم، واهتمت بشكل كامل بأميركا اللاتينية التي كانت تعتبرها "حديقة خلفية" لها، لا تسمح لها بأي استقلالٍ، أو بقدوم حكوماتٍ يساريةٍ، أو معاديةٍ، لمصالحها. مثال ذلك، وقوفها خلف الانقلابات في هذه البلدان في وقت مبكر: جواتيمالا 1954؛ البرازيل 1964؛ تشيلي 1973.. والقائمة تطول.
منذ ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، أخذت بلدان أميركا اللاتينية تركب موجة الديموقراطية، وتدخل إلى عالم الانتخابات والمشاركة الشعبية، بلداً بعد آخر، وكان هذا الأمر شاملاً باستثناء بلد أو اثنين. أتت القيادات الشعبية إلى الحكم. ومن ضمن أهم العوامل الذاتية الثقافية التي ساعدت هذه البلدان على التوحد، لتجاوز معاناتها الداخلية والخارجية، مسألة الفقر وإعانة الضعفاء، في بلدان يرزح أكثر من نصف سكانها، دوماً، تحت خط الفقر. كانت برامج الرعاية الاجتماعية ومكافحة الفقر في الأولوية، وكان مناخ التعاضد الشعبي الذي سيطر في هذه البلدان ينتج حكايته الذاتية، التي تتعرف جيداً، الحاجة الأكيدة لهذه الجموع التي دخلت إلى سُدّة المشهد السياسي. هذا الحسّ هو ما أعقب موجة أخرى، تمثلت في النجاح الانتخابي للتيارات اليسارية في أغلب هذه البلدان. 
هذا الاستقلال اللاتيني فريد، لأنه أوقف قطاراً عمره خمسمائة عام، كان يحمل الثروات والحقوق بلا توقف إلى جيب المستعمر. يؤكد الأوروجواياني، إدوارد غاليانو، في كتابه "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية: خمسة قرون من نهب قارة"، أن هذه المنطقة منذ تم اكتشافها قبل خمسمائة عام، كانت قد تخصصت في أن تخسر فقط! 


تقدم الغرب على العالم عبر مؤسسات قوية، ومجتمع مدني قوي. ولعهد طويل، ظلت بقية دول العالم ذات مجتمعات ضعيفة، تعتمد، بشكل كبير، على الحكومة، ويتضمن ذلك العلل التي تقع فيها الحكومات عادة، من ناحية التبعية للغرب، والاستبداد بالسلطة دون الشعب، والأثرة والفساد. هذه العلل الأخيرة، تعاني منها البلدان العربية، اليوم، كما عانت منها بلدان أميركا الجنوبية. لكن الأخيرة تعلمت أن حسم أمرها يكون من الداخل، وتعاضدت كشعوب لأجل ذلك، ولم تجنح لتقديم استثناء، ديني، أو تاريخي، أو وراثي، لأي أحد!
طريق التحرر طويل. بلدان أميركا اللاتينية التي كان يعرف عنها الفقر، وأنها الأشد تبعية للهيمنة الدولية، هي، اليوم، من أكثر البلدان نجاحاً اقتصادياً، فالبرازيل، مثالاً، انتقلت من هوة الإفلاس، في مطلع العقد الماضي، لتصبح سادس أكبر اقتصاد في العالم. كما بلغت هذه البلدان درجة من الاستقلالية، جعلت أمثال سنودن يختارونها للجوء، في عالمٍ تهيمن فيه أميركا، وتخافها الدول الأوروبية قبل غيرها.
ولا تتجلى دروس أميركا اللاتينية في التحرر من الهيمنة الغربية وإسقاط الدكتاتورية فقط. فمن دروسها الأخرى إعادة قراءة ثقافتهم الدينية، وتحويلها من مهادنة للظلم، وتقبل الاستبداد والتواكل (الثقافة الكاثوليكية)، إلى قراءةٍ جديدةٍ، تمهد لهم سبل التحرر والحياة الكريمة. لقد انتشرت تيارات "لاهوت التحرير" التي قدمت إعادة قراءة للدين، وأن هدف مساعدة الإنسان والفقراء وتحريرهم من الهيمنة هو المبدأ المتأصل فيه. تتضح أفكار هذا المسلك الحركي والثقافي في كتاب الأب غوستافو غوتيرييز "لاهوت التحرير"، (نشر في بيرو 1971)، وجاء فيه "للكاهن دور يتمثل في التضامن مع الفقراء، بدلاً من أن يكون مجرد ممثل للسلطات في مراتبها المختلفة، فالبشارة بالإنجيل ليست مجرد بشارة عقائدية، بل هي دعوة لتغيير الواقع الاجتماعي ..".  
لم تتخلَّ الشعوب اللاتينية عن قوتها وتقدير قدراتها، منذ وعتها وآمنت بها. في العقد الماضي، استمرت كذلك في إسقاط أوجه الهيمنة الحديثة والرأسمالية، والتي تمثلت في السياسات "النيوليبرالية" التي كانت ضاغطةً ومجحفة. فبعد الانتفاضة الشهيرة ضد الرأسمالية في سياتل الأميركية في 1999، انطلقت موجة انتفاضات في هذه البلدان، من نتاجها الإطاحة برؤساء ثلاثة أنظمة رأسمالية وموالية لأميركا: الإكوادور 2000؛ الأرجنتين 2001؛ وبوليفيا 2003 و2005.  
نعم، تجارب دول أميركا اللاتينية ليست منسجمة، كما أنهم لا زالوا يعانون مشكلات كثيرة، لكن العبرة تتمثل في أنها على الرغم من كل هذه الصعوبات، وضعت أقدامها على طريق صحيحٍ، يجلب نتائج إيجابية مرة بعد أخرى. هنالك حاجة للبحث والتأمل في دروبٍ كثيرةٍ مرت بها هذه الدول، من ذلك خطواتها المتميزة في مسار "العدالة الانتقالية"، إضافة إلى تهيئة الشعوب لتجاوز شقاقات التجارب الماضية وآلامها. 
إنها بلدان مستقلة وشجاعة، أليست اليوم خصماً مباشراً في قضية التجسس الأميركي على العالم، فيما ينام أغلب العالم، ولا يهتم. هذا الاستقلال تجلى، أيضاً، في مسألة تعذيب المعتقلين وتسليمهم للمخابرات الأميركية، وهو ما تفعله دول كثيرة (في الطليعة بينها دول عربية). تحدث تشومسكي عن هذا النوع من التقدم والسيادة، فكتب:
"أشار باحث من أميركا اللاتينية، يدعى جريغ جراندين، إلى غياب منطقة واحدة من قائمة العار (في التعذيب وتسليم المختطفين للمخابرات الأميركية)، هي أميركا اللاتينية، ويعتري الأمر أهمية مزدوجة، حيث طالما كانت أميركا اللاتينية فناءً أميركياً، يمكن أن تعتمد عليه واشنطن. وإذا حاول أي من السكان المحليين رفع رأسه، تعرّض للقطع، على يد الإرهاب، أو في انقلاب عسكري. وتماماً كما كان الوضع في ظل النفوذ الأميركي، في أرجاء القارة الجنوبية، في النصف الثاني من القرن الماضي، كانت أميركا اللاتينية تدخل في عداد عواصم التعذيب في العالم، بيد أن الأمر ما عاد كذلك، حيث يتمّ إخراج الولايات المتحدة وكندا من هذا الجزء من الكرة الأرضية".

 

 

85E9E8E1-EE94-4087-BB96-D28B3C71079C
عبد العزيز الحيص

كاتب سعودي