حيث أخطأت تركيا

حيث أخطأت تركيا

02 مارس 2020
+ الخط -
لمّا أسقطت أنقرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 المقاتلة الروسية سوخوي 24، برّرت الأمر بأنه يتطابق وقواعد الاشتباك، لكنها ما لبثت أن عدلت عن إفادتها بالقول إنه وقع نتيجة اختراق جماعاتٍ معاديةٍ الجيش التركي. وقتئذ ظنّ مراقبون أن روسيا قد تُقدم على عملٍ يرد لها اعتبارها، غير أن مهارة الروس كانت في امتصاص الحادثة، وتحويلها إلى مقدّمة لبناء وشائج اقتصادية وعسكرية؛ مثّلت صفقة صواريخ إس 400 درّة تاجها، فيما تسبّب التقارب بين البلدين في غضب أطلسي، تراوحت شدّته بين فرض عقوبات أميركية على الاقتصاد التركي وآراء تناولت مسألة مصير تركيا في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
بمهارة ورويّة، أخرجت روسيا المسألة السورية من أروقة جلسات جنيف، لصالح مساري أستانة وسوتشي، في وقت وضعت تركيا نفسها طرفاً ثانياً في مواجهة موسكو، من دون أن تتحزّم بتحالفها الأميركي في لقاءات أدّت إلى تجريف مناطق المعارضة، في الغوطة وحلب وريف اللاذقية، لصالح إعادة تموضع تركي في المناطق التي كانت في حوزة وحدات حماية الشعب غربي الفرات (عفرين). ومنحت صيغة استبدال الأراضي ومناطق سيطرة تركيا رغبة أكبر في ضم الشمال السوري بأكمله إلى سيطرتها، غير أن موسكو صوّرت العقبة الكأداء في طريق استكمال مشروع تقسيم سورية في أنه يتوقف على بقاء الأميركان الداعمين للأكراد (قوات سوريا الديمقراطية)، الأمر الذي يحول دون تنفيذ برنامج التقسيم غير المعلن.
تسرّعت تركيا في مسألة الإلحاح في إخراج الولايات المتحدة من الملعب السوري، حصل ذلك في وقت صوّرت فيه موسكو لزميلتها تركيا أن واشنطن تسعى إلى إقامة كيان كردي "انفصالي"، الأمر الذي زاد من مخاوف تركيا، وأفضى إلى جنوحها إلى مناصبة المصالح الأميركية العداء، وإلى المطالبة بخروج قوات التحالف، وتسليم المنطقة التي تحتكم عليها قوات سورية الديمقراطية والولايات المتحدة إلى الدولة التركية، إدارةً ورعاية. بطبيعة الحال، كانت
 حدّة الشقاق التركي الأميركي تريح موسكو وتدفعها إلى تهدئة الأوضاع في مناطق المجابهة بين قوات النظام ومسلّحي المعارضة، تسرّعت تركيا أيضاً حين قرّرت أن مسألة "الكيان الكردي الانفصالي" تمثّل الخطر الوجودي الأعظم على أمن تركيا واستقرارها، على الرغم من فروق القوّة الهائلة بين تركيا، ثاني قوّة في الناتو وذات الاقتصاد المهيب، والإدارة الذاتية "الكردية" التي سعت مراراً إلى طمأنة تركيا، فضلاً عن إرضائها كيما تتجنّب الحرب والصدام المسلّح. ولأجل هذا الاندفاع التركي لتحطيم نموذج الإدارة القائم، قدّمت تنازلتٍ مضاعفة للروس، ومن دون أيّ مسوّغ سوى أنها باتت تتحرّك وفق بوصلة معاداة التجربة الكردية الناهضة.
بشيء من الحذر، يمكن القول إن روسيا مقبلة على طيِّ سورية من أقصاها إلى أقصاها تحت جناحيها، مهما بلغت مصالحها الاقتصادية مع تركيا، ومهما أظهرت تركيا رغبتها في إقامة العلاقات العسكرية وإياها، أو هدّأت من التصعيد العسكري على جبهة المعارضة، إذ كان على أنقرة مراجعة مواقف وقراءاتٍ عربيةٍ خاطئة، مطلع الاحتجاجات في سورية، حين ظنّت دول عربية أن الموقف الروسي، والفيتو في مجلس الأمن، يمكن شراؤه بالمال الوفير، في وقتٍ كان يجب قراءة أهمية سورية في قلب السياسة الروسية المشرقية.
في الأثناء، لا تُبدي واشنطن، وكذا الاتحاد الأوروبي، أي إمكانية لانتشال تركيا من مأزقها السوري، فالعلاقة المفتوحة بين روسيا وتركيا، وتدخّل الأخيرة في سورية بشكلّ متسرّع، لم يحظيا برضا واشنطن وبروكسل، وعليه يصبح من السهل توقّع ما يدور في ذهن حلفاء أنقرة: لينتزع كلٌّ شوكه بيديه!
ربّما آن لتركيا المكلومة، إثر مقتل 33 من جنودها في سورية، مراجعة سياساتها التوسّعية والعودة إلى مركزها المتقدّم في مسارات التنمية ونشر الثقافة التعددية، وعدم التفريط بمكانتها الأطلسيّة واختراع أعداء موضوعيين، كما في حالة أكراد سورية، بيد أن ما يقال في صالح تركيا تبدّده سياسات ردود الأفعال التي بدأت تدمغ السياسة التركية الحالية، ليس آخرها تهديد أوروبا بإغراقها باللاجئين السوريين، وهو خطأ قد تدفع أنقرة ثمنه، كما بقية الأخطاء.