حكواتي: ع الناصرة

17 أكتوبر 2014
صورة منزل من حيفا القديمة (Getty)
+ الخط -
محطة باصات الناصرة في حيفا من أهم معالم المدينة، ومن أولى ذكريات طفولتي. إذ كنتُ أسافر مع العائلة لزيارة أهل أبي في الناصرة مرّة كلّ بضعة أشهر، وتقع المحطة عند ساحة الحناطير (ساحة دار الخمرة) في المدخل الشمالي للمدينة.
قبل عام 1948، كانت المحطة قلب البلدة القديمة. هنا كانت وما زالت كنائسها ومساجدها وعمود فيصل (يشبه المسلّة، أهداه الملك فيصل إلى المدينة). وهنا ما تبقّى من سورها الذي بناه الظاهر عمر قبل نحو 300 عام.

بالأمس عدتُ إلى محطة حيفا - الناصرة. سمعتُ صوت المنادي الذي ما زال يرتفع في ذاكرتي: "ع الناصرة ...ع الناصرة". وقفت أنتظر إلى جانب عامل أجنبي شاب، وانضمت امرأتان تتكلمان الإنكليزية وكان واضحاً من لهجة إحداهنّ أنّها إسرائيلية والأخرى ألمانية. من دون قصد بدأت المحادثة بينهنّ تثير فضولي، كيف أنّ كلّ الأبراج الحديثة هي مكاتب حكومية.
فجأة سألتها السيدة الألمانية: "ماذا كان هنا قبل بناء هذه الأبراج" فردّت عليها الإسرائيلية: "ما كان في شي"، عندها لم أستطِع إلا أن أتدخّل وأقول: "آسفة على تدخّلي لكن هنا كانت حيفا القديمة، وكان يسكنها أكثر من 30 ألف مواطن". سكتت الإسرائيلية لوهلة ثم توجّهت إليّ بغضب: "أنتم العرب بتعملوا من كلّ شي قصّة سياسية"، لم أردّ عليها لكن كلامها يعود ليؤكّد المقولة الصهيونية التي ابتدعها هرتزل زوراً وبهتاناً ومفادها أنّ "هذه البلاد لشعب بلا أرض في أرض بلا شعب". وما زالت جزءاً من خطاب الصهاينة الجمعي والفردي.

بدأ القضاء على البلدة القديمة، بعد تهجير أهلها من قبل العصابات الصهيوينة، مباشرة بعد انتهاء الحرب. فقد تأسّست شركة حكومية باسم "عامي دار" وتعني بالعربية "إسكان الشعب"، واستولت على جميع مساكن من رحلوا عن المدينة. في البداية أجازوا المساكن للكثير ممّن يسمّونهم "القادمين الجدد" الذين توافدوا مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية من أوروبا، ولاحقاً من الدول العربية. عندما بدأ هؤلاء بترك هذه البيوت والانتقال إلى الأحياء الإسرائيلية الحديثة منذ بداية خمسينيّات القرن الماضي بدأت الحكومة بمشروع محو المعالم الفسطينية عن مدينة حيفا من خلال هدم بنايات سكنية كاملة. وأغلقت بالإسمنت شبابيك بنايات أخرى مهجورة، وبنت عمارات تجارية مكانها، على غرار عمارة شركة النقليات البحرية الحكومية "تسيم" التي حجبت البحر عن السكان في منطقة البلد القديمة.

للأسف لم نكن واعين بشكل كاف للموضوع، ولم نتصدَّ له بجديّة كافية. خلال السنة الأخيرة خرجت مبادرات بهدف كشف محاولات محو المزيد من معالم حيفا الفلسطينية، خصوصاً في الأيام الأخيرة. ومع ارتفاع أسعار العقارات وتكالب أهل تل أبيب الإسرائيلين على شرائها، ولاسيما في المناطق الفقيرة، وتحديداً في شارع يافا. وهذا أدّى إلى البدء في تفريغ الشارع من سكّانه.
أخشى أن يأتي يوم ولا أتعرّف على ملامح مدينة طفولتي وطفولة أولادي، التي تحمل في زواياها عبق ذكريات لا تُنسَى، لحظات فرح، حزن، أمل، وسعادة...
المساهمون