حكواتي: حرب اللبنة بدأت قبل الحرب على غزّة

حكواتي: حرب اللبنة بدأت قبل الحرب على غزّة

14 يوليو 2014
الصورة من موقع outsidethecerealbox
+ الخط -
"القبّة الحديدية* تنافس الحمّص الإسرائيلي* في انتشاره حول العالم". خبر صحافي ورد في مواقع إلكترونية إسرائيلية عدّة، وفتح عينيّ على أنّ أحدَ أهمّ أهداف الإسرائيليين، في حرب غزّة الحالية، اقتصادي. هذا من دون التقليل من أهمية الأهداف السياسية العسكرية، ومحاولة إبادة شعبنا في غزّة.

فعلى ما يبدو، هناك تخطيط استراتيجي لضمّ اللبنة إلى لائحة "المنتوجات الإسرائيلية الوطنية"، ولاحقاً تصديرها إلى دول العالم. ولعلّ حكايتنا مع اللبنة هي تماما كحكايتنا مع فلسطين، مع أرضها وشعبها ومنتوجاتها وحكاياتها، التي ما زالت تُسرَق وتُشوَّه وتتغيَر معالمها منذ أكثر من 100 عام. ومخطىء من يظن أنّ النكبة هي بداية حكايتنا.

في الناصرة، كانت أمي تشتري اللبنة من فلاحات السوق، اللواتي كنّ يأتين من قرى الناصرة المجاورة يوميا. لكن لمّا انتقلنا إلى حيفا، في عام 1960، إلى حيّ فلسطيني سكن بيوتـَه مهاجرون جددٌ من يهود أوروبا، كانت ناديا، بيّاعة الحليب، أوّل يهودية "بنت عرب" تتعرّف إليها أمي وتستطيع أن تكلّمها لأنّها عراقية الأصل.
كانت ناديا تأتي يومياً  في الساعة السادسة ومعها قناني الحليب الزجاجية، فتأخذ أمي منها قنّينة واحدة في اليوم، إلا يوم الجمعة، حيث كانت أمي تأخذ 5 قنانٍ، واحدة للاستعمال اليومي وأربعاً لتعمل لبنة. كانت أمي "تُرَوِّب" الحليب ليصبح لبناً، وبعدها تضعه في كيس أبيض خاطته خصّيصاً لهذه المهمة، وتعلّقه على حنفية المطبخ طوال الليل، لنحصل على لبنة تكفينا، بصعوبة، مدى الأسبوع. لأنّ أيّامها ما كان في غير اللبنة للإفطار، لزوّادة المدرسة، وللعصرونية بعد الظهر، وأحياناً كثيرة كانت عشاءنا أيضاً.

مع مرور الأيّام، صارت هناك بضعة مصانع فلسطينية صغيرة لصنع اللبنة، منها "لبنة طمرة" و"لبنة الكرمل". وتوقفت أغلب النسوة عن إعداد اللبنة. لكن أمي لم تتوقّف عن إعدادها، رغم أنّ ناديا، بائعة الحليب، توقّفت عن إحضار الحليب، وصار الحليب يُباع في أكياس بلاستيكية، والأدهى أنّه صار معدوم الدسم. أما أنا، فلمّا صرتُ أُمًّا رحت أفضّل لبنة الماعز. لذلك كنت أشتريها من فلاحات وادي النسناس، اللواتي كنّ يأتين من القرى المجاورة يومياً.

لكن في السنوات الأخيرة، زاد عدد المصانع الفلسطينية لإنتاج اللبنة، وصار عمّالها يتفنّنون في صنعها. فهناك لبنة بالزعتر ولبنة "كواير" (طابات صغيرة) بزيت الزيتون، كما بدأوا في إنتاج لبنة الماعز، فبدأتُ في شرائها لأنّني توقفتُ تقريبا عن الزيارة اليومية إلى السوق.

قبل أشهر معدودة تبيّن أنّ نسبة الكولسترول في دمي أعلى من المسموح به طبياً، مما يعني ضرورة الاستغناء عن لبنة الماعز، واستبدالها بلبنة من حليب البقر، قليلة الدسم. لذلك أوّل ما رأيت لبنة قليلة الدسم في السوبر ماركت فرحت كثيرا. لكن فرحتي لم تكتمل لأنّ اسم اللبنة "لبنة أصلي"، بالعربية والعبرية (هذا الأمر لا يقتصر على حيفا، على فكرة، بل كلّ منتوجات الضفة الغربية يُفرَض على منتجيها أن يكتبوا اسم المُنتَج باللغة العبرية إلى جانب اللغة العربية). ورأيتُ أنّها من صنع أكبر شركات الألبان الأسرائيلية، "تنوبا". فتراجعتُ فوراً عن شرائها، ورحتُ أبحث عن "لبنة طمرة" أو "لبنة الكرمل".. ولم أجدها. فسألتُ البائع: "لماذا لا توجد عندكم لبنة من إنتاج فلسطيني؟". فأخبرني أنّ هناك مشكلة في التوزيع. استغربتُ الأمر، خصوصاً أنّه تكرر في بقالة حارتنا وصاحبها فلسطيني، وفي محلات عديدة حيث بحثتُ عن لبنة فلسطينية.
لاحقا، لاحظت الكمّ الكبير من الملصقات الضخمة، التي تغطي أغلب لائحات الإعلانات، خصوصاً في أحياء حيفا العربية، وعليها دعايات لأنواع اللبنة الجديدة في السوق، وانتبهت إلى أنّ هناك "لبنة دورزية" (درزية) و"لبنة إسرائيلية". وهي من إنتاج شركات منافسة لشركة "اللبنة الأصلي". وعندها اكتشفتُ أنّ حرب اللبنة بدأت  قبل الحرب على غزّة.

*القبّة الحديدية: منتوج حربي من تطوير مصانع الأسلحة الإسرائيلية، وهدفه اعتراض الصواريخ المنطلقة من قواعد المقاومة الفلسطينية، وهي في الجوّ، وتدميرها منعاً لإحداثها إصابات بشرية في صفوف الإسرائيليين. ومعروف أنّ الأسلحة من أهمّ الصادرات الإسرائيلية.

* الحمّص العربي: تحوّل إلى منتوج إسرائيلي وطني، ويُصدَّر بكميّات كبيرة إلى أنحاء العالم.

 

المساهمون