حكواتي: أحبّها..

14 سبتمبر 2014
في تلك المباراة لم أسجّل أيّ هدف (Getty/AFP)
+ الخط -
توقفت عن لعب الكرة حافياً، ابتعدت عن الملاعب كلها، إلى أن استطعت أن أشتري حذاء صينياً. في تلك الليلة لم أنم، كان الحذاء معلّقاً أمامي طوال الليل كصورة فقيد عزيز. اليوم التالي ذهبت إلى ساحة الحي الترابي حافياً، ممسكاً بحذائي كطفل ما زال يتعلم المشي، لم أرتد الحذاء إلا قبل وصولي ببضعة أمتار. حينها تراءت لي من بعيد، لم تكن قد شعرتْ باليأس وهي تنتظر عودتي، كانتْ تجلس في مقعدها الدائم أمام باب بيتها، وما أن التقتْ عيوننا حتى التمعتْ عيناها كلمعان الحلقات المعدنية المتواجدة على جوانب الحذاء.

السيارات المركونة على الرصيف، الدرّاجات، الأشجار، العجوز الذي يقف خارج الملعب.. كلّ هؤلاء تحولوا إلى حشود كبيرة يقفز بعضها بجانب بعض محاولة استرقاق النظرات إلى النّجم ذي الحذاء الصيني الجديد. في تلك المباراة لم أسجّل أيّ هدف. كلّ جهدي كان منصبّاً على تسجيل الأهداف في مرماها.

أما ما حدث فأنّني دائماً كنت ألعب مرتدياً حذاء غالياً، لكنّها لم تكن هناك. في إحدى المرات اشتريت عربة لبيع غزل البنات، وقضيت يومي أركن العربة مقابل بيتها. انتظرتُ حتى المساء ولم تخرج، اقتربتُ من الباب وناديتُ عليها، خرجتْ عائلتها كلّها، ولم تخرج. توسلت إلى والدها شراء غزل البنات لابنته، لكنّه أصرّ على أنْ لا بنات لديه. لم يتركني أكمل كلامي حتى انهال عليّ بالضرب مع منْ خرج من بيتها.الحشود نفسها التي كانت تشجعني شاركتْ في ضرْبي، قطعُ العربة المحطّمة التي كنتُ أتعثّر بها أثناء ابتعادي عن بيتها، الغيمات الصغيرة الملونة التي نثروها في الشارع، والتقطها بعض الأطفال كأنّها حقاً سقطت من السماء.

كل هذا حدث حقاً، والكثير من الأمور المماثلة. لا أستطيع الجزم بالأمر. لكنّني أعرفُ جيداً أنّها كانت موجودة مقابل ملعب الحي، وفي انتظار عربة غزل البنات مُنتظرة أن أعبّر لها عن حبّي.

***
 وراثة

يومياً أشتري علبة سجائري من ذلك العجوز صاحب "البسطة" وفي كل مرة يكرر لي الموشح نفسه: ـ تعبنا يا ابني.. والله تعبنا... الخبز.. المازوت.. البرد... إلخ. وأنا كمدمن على التدخين وعلى موشحه، لا أستطيع منع نفسي من الشراء من عنده، ونادراً ما كنت أرى شخصاً غيري يشتري من عنده.

تستغرق عملية شراء علبة السجائر نصف ساعة على الأقل يتخللها شرب كوب من الشاي حول برميل صغير يستعمله للتدفئة بعد أن يشعل فيه قطعاً من الحطب، ويبدأ موشحه: "تعبنا يا ابني... أنا عجوز وين بدي روح بالمرة والولاد..؟ البرد.. لقمة الخبز... تعبنا يا ابني والله تعبنا". يردّد موشحه بنفس واحد دون لحظة توقف واحدة، وكأنه قضى ليلته السابقة يحفظه ليردده أمامي في الصباح، لا يقطع موشحه إلا حين يبدأ بتنظيف أنفه مصدراً صوتاً كصوت الفيل، يتبعه ببصقة يخرج معها بحراً من البلغم، عندها أبعد نظري عنه وأردد: "إي والله تعبنا يا عم تعبنا" وذلك لأمنع نفسي من النظر إلى بحر بلغمه، ليس قرفاً، بل خشية من فكرة كانت قد زرعت في عقلي لسبب لا أدركه، وهي أنني إذا نظرت إلى بلغمه حتماً سأرى أشلاء أطفال غارقة فيه، ركام بيت ما، امرأة تبكي فوق قبر.

منذ فترة ذهبت كالعادة لأشتري سجائري من عنده فلم أجده، كان قد حل مكانه وراء "البسطة" طفل في الثالثة عشرة من عمره تقريباً، أنفه محمرّ من البرد كأنف مهرج. بعد أن سألته عن صديقي العجوز أخبرني بأن ذلك العجوز والده، وبأنه مريض جداً ولم يعد بإمكانه أن يعمل. حزنت جداً لما سمعته، لكن ما خفّف عليّ حزني، أني لم أعد مضطراً لسماع موشحه اليومي ـ هذا ما اعتقدته طبعاً ـ لكن ما إن طلبت من ذلك الطفل علبة السجائر حتى بدأ يردد لي: "تعبنا يا عم تعبنا، والدي من وين بدنا نداويه.. نحنا ولاد شو دخلنا.. تعبنا يا عم والله تعبنا"..
المساهمون