حكايتي مع الكتب القديمة

29 سبتمبر 2014
متعة الكتب القديمة وذاكرتها (دوناتو راداتي/Getty)
+ الخط -
القصص والروايات كانت وما زالت بديل الواقع في حياتي. في طفولتي كنتُ أهرب إليها لأنّني لم أستطع أبدًا أن العب مع إخوتي وباقي الأطفال في حاكورة بيتنا. كنتُ ممنوعة من اللعب لأنّني عانيت دومًا من التهابات في أذنيَّ ، كما أنّني لم أحبّ يوما لعب الورق أو الدومينو أو لعبة المونوبولي... كانت القصص مرتع طفولتي وساحة لعبي ومرفأي الامين، وكنت أجلس لساعات أمصّ إبهامي وأقرأ بشراهة. كنت أجد متعتي في تقمّص شخصيات القصص المختلفة والانطلاق معها في مغامراتها المختلفة.

الكتب أخذتني وما زالت تأخذني إلى أماكن ما كنتُ أحلم بأنّني سأزورها يوما. ولعلّ أبعدها وأغربها كان في غابات التانغا البيضاء حيث تتجوّل الدببة والذئاب بدون خوف أو رقيب. هناك زحّافات تجرّها الكلاب، جبال مكسوّة قممها بالثلوج صيفًا وشتاءً، الليالي الطويلة والنهارات المعتمة، أنهار كبيرة تعترضها الجسور الضخمة وتسبح في أعماقها أسماك السلمون والتورتة، مصانع ضخمة، آبار التنقيب عن البترول.
هذه بعض ملامح الاتحاد السوفيتي، خصوصًا روسيا التي شكّلت خلفية الكثير من قصص الأطفال التي قرأتها في طفولتي. كتب كان والدي يشتريها لنا من المكتبة الشعبية في الناصرة، التي كانت تأتي مجّانًا ومباشرة من الاتحاد السوفييتي إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وهدفها بثّ المباديء الإشتراكية السوفييتية في أذهان الأطفال في العالم. وكانت في أغلبها كتب روسية مترجمة مزدانة برسومات ملوّنة لها غلاف مقوّى وأوراقها مصقولة. وكانت، مضامينها ورسوماتها، تعكس واقعًا مختلفًا عن واقع مدينتي حيفا في سنوات الستينيّات وبداية السبعينيّات. حيفا بشوارعها الضيّقة وحاراتها القديمة وبحرها وطقسها المعتدل.

إلى جانب قراءة الكتب المترجمة قرأتُ، منذ أن كنت في السابعة من عمري، الروايات التاريخية لجرجي زيدان وكان أوّلها "فتاة قريش". لم أفهم الكثير منها آنذاك، بعدها قرأت مؤلّفات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدّوس، التي كانت تصلنا شهريًا من خلال الاشتراك السنوي في "مكتبة دانيال". وكان صاحبها يحصل على هذه الكتب بعد جهد جهيد (قبل العام 1967) وينسخها ويبعثها في البريد بمعدّل كتابين كلّ شهر، إلى المشتركين. ومكتبة فؤاد دانيال هي موضوع حكاية أخرى عليّ أن أكتبها لكي لا تضيع مع ما ضاع من ذكريات الطفولة.

فقدت أغلب كتب طفولتي لاعتقاد أمي أنّ الكتب، مثل الملابس، يجب توزيعها حين يكبر الأولاد. وكان هذا بسبب ضيق شقّتنا وإصرار ـبي على شراء الكتب، دون أن يهيّىء لها مكانًا ملائمًا في مكتبته.

"تشيك وغيك" قصّة واقعية للفتيان بقلم الكاتب الروسي أركادي غايدار، ترجمها وصفي البنى في دار "رادوغا للطبع والنشر باللغات الأجنبية". هو الكتاب الوحيد الذي بقي بالصدفة في مكتبة والدي إلى جانب مقدّمة ابن خلدون وإلى جوار كتاب دوستيوفسكي "الجريمة والعقاب".
بعد وفاة أبي بسنوات عدّة قرّرت أمي الاستغناء عن كتبه والتبرّع بها إلى المكتبة العامة. فآلمني جدًّا هذا القرار. قرّرت في المقابل أن آخذ من الكتب قدر استطاعة مكتبتي البيتية أن تتحمّل. وعندما تسلّقت أعلى رفوف المكتبة وجدتُ كتاب "شيك وغيك" وفرحت جدًّا ورحت أقرأه مرارًا وأستعيد في كلّ مرّة ملامح طفولتي ومتعتي اللانهائية في الجولات الأدبية التي كنت أقوم بها يوميًا.
رغم تمزّق صفحاته وفقدان الصفحة الأخيرة منه، حافظت عليه إلى جانب الكتب الروسية المترجمة التي صدرت لاحقا عن دار "رادوغا" موسكو في السبعينيّات، إلى حين انهيار النظام الاشتراكي والاتحاد السوفييتي.

نسيت وجود هذا الكتاب لفترة وركنته جانبًا. لكن الذي أعادني إليه اليوم كان كتاب نرويجي لليافعين بعنوان "لنخرج ونسرق الخيول" للكاتب بير بيترسون، من إصدار "دار المنى" في السويد. لجأت إلى القراءة إثر أزمة عابرة ألمّت بي، تمامًا مثلما كنت أفعل في طفولتي. وبدأت بقراءة هذه الرواية ولم أتركها إلا بعدما أنهيتها. وهي ذكّرتني بقصص طفولتي، خصوصًا قصّة "تشيك وغيك". ربّما لأنّها تصف بلادًا بعيدة باردة ماطرة صيفها شبيه بشتاء بلادنا، فيها أنهار ضخمة، تكثر فيها أنواع الأسماك الغريبة، وتدور أحداثها في غابات حقيقسة مليئة بالحيوانات التي أراها غالبا في حديقة الحيوان. أو ربّما لأنّها رواية مميّزة بمضمونها وببنائها الروائي.
بهرتني دقّة تفاصيلها وبراعة كاتبها في حبك أحداثها ذهابًا وإيابًا، بين العام 1945 والعام 1998، دون أن يدخل القارىء في متاهات، بل على العكس تمامًا، فهذه الجولات في الزمن أعطت الرواية طعمها المميّز. لكن لا قصّة تضاهي قصّة "تشيك وغيك". ربّما لأنّني قرأتها في طفولتي وأنا ما زلت في طور السذاجة أصدّق كلّ ما أسمعه وأقرأه.

المساهمون