04 أكتوبر 2024
حتى لا تكون مصالحة مأزومين
لا يمكن محباً لفلسطين، وغيوراً على مصلحة قضيتها وشعبها، إلا أن يتمنى حدوث مصالحة فلسطينية حقيقية، تنهي سنوات الانقسام المعيب، وتركز الجهود على تطوير مشروعٍ وطنيٍّ، جامع للتصدي للاحتلال الصهيوني، وسياساته التهويدية والإجرامية.
ولكن، أيَّ مصالحة نريد؟
هل هي مصالحة "المأزومين"، كما هي هذه "المصالحة" الأخيرة التي يتم الحديث عنها الآن؟ أم أننا في حاجة إلى مصالحةٍ، تتسق مع جوهر القضية الفلسطينية، وتعيد تعريف أولوياتها ومسارها المستقبلي، بدل العبثية التي تمر بها الآن؟
لنبدأ بـ "المصالحة" الراهنة التي أحيت الأمل بإعادة إنتاج لحمة جزءيْن من الوطن الأكبر المحتل.
فحركة فتح وسلطتها في الضفة الغربية مأزومتان، بسبب اصطدام رهاناتهم على "السلام"، المُبَشَّرِ به أميركياً، بحائط سميك وصلب، بسبب سياسات إسرائيل ومواقفها المتعنتة والصلفة. الغريب أن أي متابع لتاريخ التفاوض الفلسطيني-الإسرائيلي يدرك، منذ البدء، أن إسرائيل لن تعطي الطرف الفلسطيني المفاوض شيئاً ذا معنى، ضمن سياق الحقوق الفلسطينية، في حين يتعامل المفاوض الفلسطيني، وكأنه يرتجي شيئاً من وراء هذه المفاوضات العقيمة، ضمن سياقاتها الحالية.
وتعاني "فتح"، أيضاً، من تفسخ داخليٍ وصراعٍ مبكر على خلافة الرئيس محمود عباس، ومن الواضح أن قرار خلافة عباس لم يعد فتحاوياً بحتاً. ويكفي أن نشير، هنا، إلى ما يبدو أنه تبني النظام الحاكم في مصر ودولة الإمارات شخص القيادي المفصول من فتح، محمد دحلان، والمشاكسة به على عباس. ويستحيل أن يكون هناك خليفة لعباس الذي يقود من الضفة الغربية المحتلة، من دون الحصول على ضوء أخضر إسرائيلي أميركي، وهذا بحد ذاته يعد فاجعة.
دع عنك طبعاً، ارتهان مشروع "السلطة" كله لحسابات إسرائيل باحتلال مريحٍ، تقوم به السلطة الفلسطينية بضمان أمن المُحتَلِّ، وتحمل مسؤوليات إعاشة الفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1967.
على الصعيد الآخر، حماس مأزومة هي أيضاً. فقد تحولت إلى "سلطة أمر واقع" في قطاع غزة، ومسؤولة عن سكانه المنكوبين والمحاصرين. ولكن، لا أحد يقبل بها، وقليلون جداً من يعترفون بمشروعية حكمها، بل وحتى بنجاحها الانتخابي عام 2006. إسرائيل تحاصر غزة، وتعتدي عليها، مصر الانقلاب تخنقها وتعزلها، ودول عربية محورية كثيرة تعاديها ويضيقون عليها، وأكثر الغرب المنافق شريك في كل تلك الجرائم بحق القطاع. أما في الضفة الغربية، فحماس تتعرض للسحق هناك من أجهزة أمن السلطة وإسرائيل معاً.
أبعد من ذلك، فإطاحة حكم الرئيس محمد مرسي في مصر، ووأد الانتفاضات العربية إلى حد كبير، أضعف حماس، وخلخل رهاناتها، وشتت قياداتها. فهي خسرت الحليفين السوري والإيراني، في سبيل موقف مبدئي، ولكنها لم تكسب مصر والسعودية، في حين لا تقدر قطر وتركيا، بسبب تعقيدات الجغرافيا، على تقديم الكثير لنجدتها.
وبعيداً عن تفاصيل هذه "المصالحة" الأخيرة، أقول:
• نعم، نريد مصالحة، ولكن ليس "مصالحة مأزومين". نريد مصالحةً على أسس واضحة، وعلى أساسٍ من مشروعٍ وطنيٍ واقعيٍ، يُعَرِّفُ الثوابت الوطنية الفلسطينية في حدودها الدنيا التي لن يقبل الفلسطينيون التنازل عنها، في هذه المرحلة، مع إبقاء الثوابت الفلسطينية الكلية حاضرةً في الوعي الجمعيِّ الفلسطيني، ليجري ابتعاثها في مرحلة تالية.
• نعم، نريد مصالحةً، ولكن، على أساس شراكةٍ وطنيةٍ كاملةٍ، وليس انتصاراً لرؤية طرف، وتحديداً، طرف "سلطة أمر الواقع" في الضفة الغربية، والذي ينحدر في مسار المفاوضات، من دون كوابح، أو خطوط حمر.
• نعم، نريد مصالحة، تشرك "الكل" الفلسطيني، وليس جزءاً منه.
ومن أسفٍ، فإنه لا ينبغي لنا أن نتعشم كثيراً بهذه "المصالحة"، فهي لا تزال حبراً على ورق، فرعاة السلطة في الضفة الغربية من العرب والغرب، وتحديداً مصر وإسرائيل والولايات المتحدة، لن يقبلوا بسهولة بمصالحة على أساسٍ من الشراكة والمشروع الوطني الجامع، وها نحن قد سمعنا التنديد الأميركي بـ"المصالحة" والوعيد الإسرائيلي وتخيير السلطة بين التفاوض مع إسرائيل أو الشراكة مع "حماس".
أما حركة المقاومة الإسلامية، فإنها قد تجد نفسها غداً تقف من جديد أمام تناقضٍ صارخ وعويص. هل نستمر في مسار "المصالحة"، في محاولة لاستنقاذ غزة المنكوبة، وأهلها المروعين من الحصار الخانق، وكذلك في محاولةٍ لرفع عبء إدارة غزة عن كاهلينا المثقلين، أم أنه يجب علينا أن نتنكر لـ"مصالحةٍ"، إذا ما سعى عباس وفريقه، كما كل مرة سبقت، إلى التعامل معها بمفهوم "المٌحَلِل" لكل مغامراتهم "التفاوضية" الطائشة، وأن يجعلوا منها "انتصاراً" على حماس من أجل "تأديبها" في غزة لاحقاً، عندما تسمح الظروف.
خيار صعب أمام "حماس" لا شك، كما هو صعب على السلطة المقامرة بغضب أميركي وإسرائيلي وبعض عربي. لكن الأخطر من ذلك كله أن يتحول مفهوم المصالحة إلى محاولةٍ لإحداث انطباع خاطئ وموهوم عن وجود وحدةٍ وطنيةٍ فلسطينيةٍ، في حين أن الانقسام على صعيد المواقف، وتشرذم المشاريع الفصائلية والمصلحية، ينخر في جسد مهترئ، يكاد يحتضر، اسمه "مشروع وطني فلسطيني".
عباس هدّد ضمنياً، غير مرة، في الآونة الأخيرة، بخيار "حَلِّ" السلطة الفلسطينية، وتحميل إسرائيل مسؤولية الاحتلال، لكنها تهديدات تبقى بلا معنى، هذا إن كانت جدية أصلاً، ما دام لا يوجد مشروع وطني جمعيٍّ، يكون بمثابة خريطة طريق للنضال الوطني الفلسطيني. فحتى خيار "حَلِّ" السلطة، من دون مشروع وطني جمعيٍّ، يبقى غير واقعي. فالسلطة الفلسطينية ليست شخصاً ومؤسسات فحسب، بل هي كذلك طبقة من المنتفعين وأصحاب المصالح فلسطينياً، ولن يصعب على إسرائيل والولايات المتحدة وبعض حلفائهما العرب استبدال عباس بشخص آخر أكثر طواعية منه.
فهل، يا ترى، تكون هذه "المصالحة" المرتقبة مصالحةً وطنيةً حقيقيةً، على أساس شراكةٍ وطنيةٍ، ومشروعٍ وطنيٍّ متجاوز لحركتي حماس وفتح؟ أرجو ذلك، لكني متشكك، وأتمنى أن أكون مخطئاً.
ولكن، أيَّ مصالحة نريد؟
هل هي مصالحة "المأزومين"، كما هي هذه "المصالحة" الأخيرة التي يتم الحديث عنها الآن؟ أم أننا في حاجة إلى مصالحةٍ، تتسق مع جوهر القضية الفلسطينية، وتعيد تعريف أولوياتها ومسارها المستقبلي، بدل العبثية التي تمر بها الآن؟
لنبدأ بـ "المصالحة" الراهنة التي أحيت الأمل بإعادة إنتاج لحمة جزءيْن من الوطن الأكبر المحتل.
فحركة فتح وسلطتها في الضفة الغربية مأزومتان، بسبب اصطدام رهاناتهم على "السلام"، المُبَشَّرِ به أميركياً، بحائط سميك وصلب، بسبب سياسات إسرائيل ومواقفها المتعنتة والصلفة. الغريب أن أي متابع لتاريخ التفاوض الفلسطيني-الإسرائيلي يدرك، منذ البدء، أن إسرائيل لن تعطي الطرف الفلسطيني المفاوض شيئاً ذا معنى، ضمن سياق الحقوق الفلسطينية، في حين يتعامل المفاوض الفلسطيني، وكأنه يرتجي شيئاً من وراء هذه المفاوضات العقيمة، ضمن سياقاتها الحالية.
وتعاني "فتح"، أيضاً، من تفسخ داخليٍ وصراعٍ مبكر على خلافة الرئيس محمود عباس، ومن الواضح أن قرار خلافة عباس لم يعد فتحاوياً بحتاً. ويكفي أن نشير، هنا، إلى ما يبدو أنه تبني النظام الحاكم في مصر ودولة الإمارات شخص القيادي المفصول من فتح، محمد دحلان، والمشاكسة به على عباس. ويستحيل أن يكون هناك خليفة لعباس الذي يقود من الضفة الغربية المحتلة، من دون الحصول على ضوء أخضر إسرائيلي أميركي، وهذا بحد ذاته يعد فاجعة.
دع عنك طبعاً، ارتهان مشروع "السلطة" كله لحسابات إسرائيل باحتلال مريحٍ، تقوم به السلطة الفلسطينية بضمان أمن المُحتَلِّ، وتحمل مسؤوليات إعاشة الفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1967.
على الصعيد الآخر، حماس مأزومة هي أيضاً. فقد تحولت إلى "سلطة أمر واقع" في قطاع غزة، ومسؤولة عن سكانه المنكوبين والمحاصرين. ولكن، لا أحد يقبل بها، وقليلون جداً من يعترفون بمشروعية حكمها، بل وحتى بنجاحها الانتخابي عام 2006. إسرائيل تحاصر غزة، وتعتدي عليها، مصر الانقلاب تخنقها وتعزلها، ودول عربية محورية كثيرة تعاديها ويضيقون عليها، وأكثر الغرب المنافق شريك في كل تلك الجرائم بحق القطاع. أما في الضفة الغربية، فحماس تتعرض للسحق هناك من أجهزة أمن السلطة وإسرائيل معاً.
أبعد من ذلك، فإطاحة حكم الرئيس محمد مرسي في مصر، ووأد الانتفاضات العربية إلى حد كبير، أضعف حماس، وخلخل رهاناتها، وشتت قياداتها. فهي خسرت الحليفين السوري والإيراني، في سبيل موقف مبدئي، ولكنها لم تكسب مصر والسعودية، في حين لا تقدر قطر وتركيا، بسبب تعقيدات الجغرافيا، على تقديم الكثير لنجدتها.
وبعيداً عن تفاصيل هذه "المصالحة" الأخيرة، أقول:
• نعم، نريد مصالحة، ولكن ليس "مصالحة مأزومين". نريد مصالحةً على أسس واضحة، وعلى أساسٍ من مشروعٍ وطنيٍ واقعيٍ، يُعَرِّفُ الثوابت الوطنية الفلسطينية في حدودها الدنيا التي لن يقبل الفلسطينيون التنازل عنها، في هذه المرحلة، مع إبقاء الثوابت الفلسطينية الكلية حاضرةً في الوعي الجمعيِّ الفلسطيني، ليجري ابتعاثها في مرحلة تالية.
• نعم، نريد مصالحةً، ولكن، على أساس شراكةٍ وطنيةٍ كاملةٍ، وليس انتصاراً لرؤية طرف، وتحديداً، طرف "سلطة أمر الواقع" في الضفة الغربية، والذي ينحدر في مسار المفاوضات، من دون كوابح، أو خطوط حمر.
• نعم، نريد مصالحة، تشرك "الكل" الفلسطيني، وليس جزءاً منه.
ومن أسفٍ، فإنه لا ينبغي لنا أن نتعشم كثيراً بهذه "المصالحة"، فهي لا تزال حبراً على ورق، فرعاة السلطة في الضفة الغربية من العرب والغرب، وتحديداً مصر وإسرائيل والولايات المتحدة، لن يقبلوا بسهولة بمصالحة على أساسٍ من الشراكة والمشروع الوطني الجامع، وها نحن قد سمعنا التنديد الأميركي بـ"المصالحة" والوعيد الإسرائيلي وتخيير السلطة بين التفاوض مع إسرائيل أو الشراكة مع "حماس".
أما حركة المقاومة الإسلامية، فإنها قد تجد نفسها غداً تقف من جديد أمام تناقضٍ صارخ وعويص. هل نستمر في مسار "المصالحة"، في محاولة لاستنقاذ غزة المنكوبة، وأهلها المروعين من الحصار الخانق، وكذلك في محاولةٍ لرفع عبء إدارة غزة عن كاهلينا المثقلين، أم أنه يجب علينا أن نتنكر لـ"مصالحةٍ"، إذا ما سعى عباس وفريقه، كما كل مرة سبقت، إلى التعامل معها بمفهوم "المٌحَلِل" لكل مغامراتهم "التفاوضية" الطائشة، وأن يجعلوا منها "انتصاراً" على حماس من أجل "تأديبها" في غزة لاحقاً، عندما تسمح الظروف.
خيار صعب أمام "حماس" لا شك، كما هو صعب على السلطة المقامرة بغضب أميركي وإسرائيلي وبعض عربي. لكن الأخطر من ذلك كله أن يتحول مفهوم المصالحة إلى محاولةٍ لإحداث انطباع خاطئ وموهوم عن وجود وحدةٍ وطنيةٍ فلسطينيةٍ، في حين أن الانقسام على صعيد المواقف، وتشرذم المشاريع الفصائلية والمصلحية، ينخر في جسد مهترئ، يكاد يحتضر، اسمه "مشروع وطني فلسطيني".
عباس هدّد ضمنياً، غير مرة، في الآونة الأخيرة، بخيار "حَلِّ" السلطة الفلسطينية، وتحميل إسرائيل مسؤولية الاحتلال، لكنها تهديدات تبقى بلا معنى، هذا إن كانت جدية أصلاً، ما دام لا يوجد مشروع وطني جمعيٍّ، يكون بمثابة خريطة طريق للنضال الوطني الفلسطيني. فحتى خيار "حَلِّ" السلطة، من دون مشروع وطني جمعيٍّ، يبقى غير واقعي. فالسلطة الفلسطينية ليست شخصاً ومؤسسات فحسب، بل هي كذلك طبقة من المنتفعين وأصحاب المصالح فلسطينياً، ولن يصعب على إسرائيل والولايات المتحدة وبعض حلفائهما العرب استبدال عباس بشخص آخر أكثر طواعية منه.
فهل، يا ترى، تكون هذه "المصالحة" المرتقبة مصالحةً وطنيةً حقيقيةً، على أساس شراكةٍ وطنيةٍ، ومشروعٍ وطنيٍّ متجاوز لحركتي حماس وفتح؟ أرجو ذلك، لكني متشكك، وأتمنى أن أكون مخطئاً.