حاملات هم أم صانعات همة

03 يونيو 2015
+ الخط -
لم يكن عبد الرحمن بن عوف أي صحابي، بل من العشرة المبشرين بالجنة، ومن أصحاب السبق والموقف في حياة المصطفى، وبعد مماته صل الله عليه وسلم. لذا فرؤيته وتصرفه تنبع من المدرسة النبوية والتصاقه والتزامه بها، وتصدر عن مشكاتها، ثم وجوده في موقف حساس، عهدت إليه الأمة بأمانة الترجيح بين مرشحين في زمن الخلافة الثالثة بين عثمان وعلي، فكان فعله غاية في السمو والتقدم والوعي، وقد جاء في الحديث الذي يخبر عن هذه المرحلة: "ثم نهض عبد الرحمن بن عوف يستشير الناس جميعاً فيهما، ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا مثنى وفرادى ومجتمعين، .. حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن..."

وفي العبارة "حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن" إيحاءات غاية في الدقة، فهو في هذا الأمر العظيم والوقت العصيب ومفترق الطرق من حاضر الأمة ومستقبلها لم يقبل أن يُهمش نصف المجتمع، لم يرض أن تكون المرأة متلقية للقرار السياسي الذي سيؤثر على حياتها، بل أرادها مشاركة وصانعة له منذ الخطوة الأولى. لم يقبل بالرجال لينوبوا عنها أو توكلهم في أمرها، فلماذا يكون رأيها مطلوباً في زواجها تصريحاً أو تلميحاً، ولا يكون مطلوبا في قضايا المجتمع؟ ألا تتأثر فيها بذات درجة تأثر الرجال؟ ألا تصب القرارات التي يأخذها الرجال في محافلهم العامة في صلب ومنتصف حياتها وبيتها؟ فلماذا يسد عنها أحد في القرار والرأي، وماذا يمنع أن تكون هي حاضرة في صناعة الحدث؟ في العبارة إشارات أخرى، يدل عليها فعل (خَلُصَ) بمعنى أن ابن عوف بذل جهداً في تغيير المجتمع وعاداته وإقناعه حتى يخلّو بينه وبين استشارة النساء، فالمجتمع القبلي المحافظ إلخ من تعدد الصور والالقاب كان، بعمومه، لا يرى المرأة سوى حاملة للذرية وراعية للبيت، حتى جاء الإسلام وأكرمها بالفاعلية والعطاء. ولكن، بقيت علائق فكرية وممارسات تحصرها فقط في خدرها، وتبالغ في وضع القيود عليها، أو تفسر الدين على الهوى، وتعزله عن سياقه، حتى بلغت السفاهة أوجها في أيامنا، فجرى المثل "شاوروهن وخالفوهن"، ولم تعد المرأة تذكر إلا ويستدل المغرضون والجهلة بحديث ناقصات العقل والدين، من دون فهم معناه وسياقه، فيسيؤون للدين، وصورة الدين الذي جاء لإكرام المرأة.

لم يرض ابن عوف، وهو في موقع المسؤولية والأمانة، أن تقبل المرأة أن تنأى بنفسها عن الميدان، أو تكون مجرد زوجة أو ابنة أو راعية بيت أو ربة منزل فقط، كل هذه منازل عظيمة. ولكن، لا يمنع معها أن تكون صاحبة وعي وفكر ودور اجتماعي، فحولها من دور المتلقي والمنفذ إلى دور الإطلاق والمبادرة. فهم إن دوره رجلاً مسؤولاً يقتضي أن ينهض بالجميع، رجالا ونساءً، حتى من اخترن لأنفسهن ميدان العائلة فقط، ففي أمر الأمة رأى ابن عوف أن دور ورأي المرأة بالأهمية نفسها كدور الرجال، ولم يقبل بالوكالة أو الإنابة عنهن.
تأتي هذه الممارسة في العصور الراشدة، لتوضح التباين الكبير الذي وصلت إليه مشاركة المرأة فيما يعرف بمواطن صنع القرار وحالة الغياب شبه التام، أو الوجود التجميلي للمرأة فيها الذي جعل المجتمعات الدولية تلاحقنا بعصا العولمة والعلمنة لما يعرف بحرية المرأة وحقوقها التي أدركناها، وهم ما زالوا في أوروبا يتناقشون في روح المرأة وكيانها من روح الرب أم من روح الشيطان؟
تأتي هذه الممارسات لتكون شاهدا على الحركات الإسلامية التي تتبنى المرجعية الدينية في أيدلوجياتها، وما زالت تناقش في وجود المرأة ومحدداته والأبعاد الشرعية، ويتشدد بعض، ويتساهل آخرون وتضيع المسألة، ويبقى وضع المرأة في الحركات الإسلامية كماً عددياً، وليس نوعياً، بل يلجأون إلى الكوتا من باب التمكين التدريجي، لإدماج المرأة في العمل السياسي الإسلامي، وأي تدرج ظل ونحن في القرن الواحد والعشرين، وبعض الدول تقودها نساء؟! بل أي رجل من الذين يعملون في الحركات الإسلامية يمكن أن يقدم أو يؤثر امرأة كفؤة بمنصب شغله الرجال من قبل؟ بل أي حركة أخرجت النساء من قطاع العمل النسائي الصرف إلى العمل في كل القطاعات؟
عدنا نحبو بعد أن كنا قطعنا السباق كله في عصر الرشد، ولكن الرائد يومها كان ألمعياً مجدداً، استفز في المجتمع كل طاقاته، وحرك كل أفراده، ولم يرض للنساء أن يبقين في حجرهن، لم يرض أن تحمل النساء هم قرارات الرجال في الحرب أو السلم، في الإقدام أو الإحجام، بل أراد لهن أن يكن صانعات القرار وباعثات الهمة ومنطلق العمل، فكل العظيمات من النساء اللواتي خلد اسمهن في التاريخ كن جنبا إلى جنب رجالهن، وليس كما يقول المثل "وراء كل رجل عظيم امرأة".
إرثنا الإسلامي والحضاري متقدم، بل وسار كل المسيرة وقدم النموذج، نحن الذين تأخرنا عن اللحاق وأعاقنا بعض من الداخل، فمن أراد العودة إلى السكة، عليه بنهج الراشدين المهديين، كما أخبر الرسول في تفعيل المرأة ودورها، حتى لا يبقى المجتمع يحجل على قدم واحدة، ويعمل بنصف طاقته.

avata
avata
ديمة طارق طهبوب (الأردن)
ديمة طارق طهبوب (الأردن)