جوسلين صعب في "دار النمر": فنّ توثيق اللحظة

جوسلين صعب في "دار النمر": فنّ توثيق اللحظة

12 نوفمبر 2018
جوسلين صعب: مواكبة حدث وصناعة صورة (فيسبوك)
+ الخط -
الفعل السينمائي الذي تصنعه "دار النمر للفن والثقافة" متلائم والمفهوم الثقافي للتكريم أو الاستعادة. تخصيص شهر كامل بسينمائيّ يمزج الاستعادة بالتكريم، ويضع أفلامًا مختارة له أمام مشاهدين غير عارفين بها وبصانعيها؛ أو ربما يعرفون فيعتبرون هذه العروض مناسَبَة لمُشاهدة جديدة. فعل سينمائي يجد في بعض الماضي مناراتٍ تستحق اكتشافًا أو إعادة اكتشاف. هذا جزءٌ من حراك ثقافي أوسع تبغيه الدار، وتريده حيّزًا للتنبّه إلى أحوالٍ مختلفة في نصوص تتوّزع على فنون مختلفة، تحتل السينما مكانةً مهمّة بينها. 

الفعل السينمائيّ غير مبتعد عن مفهوم ثقافي لصورة تواكب أحوالاً وتبدّلات، فتكون عدسة الكاميرا عينًا تراقب وتلتقط وتعكس مجريات أحداث، أو وقائع وحكايات. صورة مرتبكة لكنها توثِّق زمنًا ومفصلاً في تاريخ بلد وشعب، أو في سِيَر أفراد يُشاركون في الحدث المُلتَقَط. هذا ما تفعله "دار النمر"، فالتكريم السينمائي معقودٌ على مؤثّرين في صنع صورة، وفي تأريخ لحظة، وفي تحصين ذاكرة، لأن أفلامهم ـ وإنْ تبدو اليوم مرتبكة ومنقوصة ومحتاجة إلى تأهيل متنوّع ـ مرايا ماضٍ تؤرشف الحاصل حينها بفضل هواجس "مؤرشفين سينمائيين" والتزاماتهم وقناعاتهم، فهؤلاء جميعهم لن يكونوا مؤرّخين بل سينمائيين يمتلكون حساسية ثقافية مفتوحة على الفكر والاجتماع والاقتصاد والسياسة، وعلى مفاهيم الانتماء والهوية والعلاقة بالآخر.

بعد مارون بغدادي (1950 ـ 1993) في سبتمبر/ أيلول 2018 ("ضفة ثالثة" في "العربي الجديد"، 8/ 9/ 2018)، تُقدِّم "دار النمر" أفلامًا مختلفة لجوسلين صعب (1948) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018. مخرجان منتميان إلى سينما لبنانية ملتزمة قضايا الراهن حينها وناس الراهن حينها وحكايات الراهن حينها، ومنسجمة وانقلابات العالم في أنماط التفكير والتأمّل. سينما تجتهد في التقاط اللحظة، كي تطرح أسئلة اللحظة انطلاقًا من التزامٍ فكري سياسي ناشط حينها، خصوصًا أن صانعي تلك السينما مواكبون لغليان عربيّ حاصلٍ في لبنان ومحيطه، ومتورّطون في تسجيل غناه المتنوّع، وتخبّطاته المختلفة، وحماسته المفرطة في امتلاك القناعات. هذا كلّه غير سطحي وغير عابر، فالالتزام عميق، والقناعات حينها ثابتة، لكن البحث عن أجوبة غير متوقّف، تمامًا كعدم توقّف طرح الأسئلة الشائكة في/ عن جغرافيا تتخبّط في نزاعاتها غير المنتهية.

لن يختلف كثيرًا التوجّه الأساسي، العقائدي والفكري، لجوسلين صعب عن صانعي تلك السينما اللبنانية في تلك اللحظة المصيرية، بدءًا من النصف الأول من سبعينيات القرن الـ20. هي ابنة عائلة بورجوازية فرنكوفونية، لكنها تطمح إلى الصورة بعد دراسة علمٍ، وتذهب إلى الصحافة والإعلام المرئي كتمهيدٍ (غير واعٍ ربما) للانخراط الكلّي في سينما تريد أن تجمع في نتاجها بين أحوال المرحلة وأسئلتها، وانفعالات صانعيها وتساؤلاتهم. فاندلاع الحرب اللبنانية، في 13 إبريل/ نيسان 1975، كافٍ لإعادة جوسلين صعب إلى بيروت، كي تبدأ تلك الرحلة الطويلة من الاشتغال في السينما والفنون، وفي اختبار أنواع العمل البصري، وفي لمس الوقائع والأحاسيس، وفي مواجهة تحدّيات تُطلقها انقلابات جذرية في جغرافيا ملتهبة.

"لبنان في الدوامة" (1975) أحد الأمثلة التي تعكس معنى الصورة والكاميرا في مواكبة الحدث، بالنسبة إلى صانعة أفلام تلفزيونية وريبورتاجات وتوثيق عن قضايا عربية ودولية مختلفة. عرضه في "دار النمر" مساء 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، كافتتاحٍ للاحتفاء بمخرجته وبعض سينماها، دليلٌ على موقع الكاميرا في ذات المخرجة، وعلى مكانة بيروت في روح المخرجة، وعلى أصالة الارتباط ببلد ذاهب إلى خرابٍ مدوٍّ. فبعد أشهر قليلة على جريمة قتل مدنيين فلسطينيين في عين الرمانة (اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية المستمرة، عسكريًا، لغاية 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990)، تعود صعب إلى "أصل الصورة": صورة الحرب وخلفياتها وأسبابها، وصورة الراهن ووقائعه وتفاصيله، وصورة الكاميرا التي تريد توثيق اللحظة، فإذا بالانهماك الكلّي في الموضوع وتشعّباته، في ظلّ الثقل الدموي لبداية تلك الحرب، يطغى على الجوانب التقنية والفنية والبصرية. فالحرب طاحنة، وأرقام القتلى والجرحى تُثير جنونًا لدى مصدومين ببطش المتقاتلين وهوسهم بالعنف والقتل والتدمير. والبلد منقسم، وجوسلين صعب تريد عودة إلى جذر الحكاية اللبنانية، فتجد في الكاميرا ما يُثير لديها فعل التوثيق: لقاءات مع بعض زعماء تلك المرحلة (كمال جنبلاط، فاروق المقدم، عبد المجيد الرفاعي، وغيرهم) ومفكّريها أو منظّريها (سمير فرنجية وفواز طرابلسي). لقاءات تترافق وتصوير متتال لتدريبات أو لقتال أو لوقائع العيش في جحيم بلد مفتوح على صدامات شتّى.


سيلي هذا فيلمان قصيران يُعرضان في "دار النمر" غدًا الثلاثاء، 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018: "بيروت لم تعد كما كانت" (1976، 35 دقيقة)، و"من أجل بعض الحياة" (1976، 17 دقيقة). الأول معاينة حسية لبداية "الجلجلة" التي ستعيشها بيروت طويلاً. معاينة يومية ودقيقة خلال 6 أشهر لما يُمكن تسميته بـ"تلف الجدران"، إذْ تتجوّل صعب في أزقّة المدينة بين 6 و10 صباح كلّ يوم، "عندما يرتاح مقاتلو الطرفين المتصارعين من ليل معاركهم" (جوسلين صعب: الذاكرة الجامحة ـ 1970 ـ 2015" بالفرنسية، ماتيلد روكسل، منشورات "دار النهار للنشر"، بيروت، 2015). الثاني "بورتريه" لريمون إدّه (1913 ـ 2000)، أحد أبرز الزعماء الموارنة اللبنانيين المناهض للحرب، والمواجِه للزعامات المتقاتلة، والرافض "دخول الجيش السوري إلى لبنان" لاحقًا. "بورتريه" لرجل يستعد حينها لانتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية (1976)، بعد انهماكه، منذ اندلاع تلك الحرب، بالبحث عن مفقوديها بالتعاون مع لينا طبّاره.

هكذا "تُحاور" جوسلين صعب راهن بلدها ومدينتها، عبر التورّط البصري في تأريخ اللحظة. الصحافية المنخرطة في أحوال كثيرة، من البوليساريو إلى القذافي، ومن أكراد العراق إلى نساء فلسطين، ومن "كومندوس الانتحاريين" إلى الجولان وسورية، ومن حروب العرب مع إسرائيل إلى علاقة فرنسا بالشرق الأوسط، الصحافية نفسها ستغرق يومًا تلو آخر في حرب لبنان، فتصنع ما سيبقى في الذاكرة تأريخًا بصريًا للبلد ولسينماه.

الفيلمان الآخران المختاران في "دار النمر" هما: "رسالة من بيروت" (1978، 52 دقيقة) و"غزل البنات" (1985، 90 دقيقة). الأول (20/ 11) مزيج الذاتي البحت بأهوال الحرب نفسها: بعد 3 أعوام على اندلاع تلك الحرب، تعود صعب إلى مدينتها من دون القدرة على التكيف مجدّدًا معها، لكنها ستحاول إيجاد وسيلة لتخاطب مباشر مع الناس عبر باصٍ يتجوّل في المدينة، في حين أن النقل العام متوقّف عن العمل، فإذا بأفراد عديدين سيجدون فيه نوعًا من أمانٍ. أما الثاني (27/ 11)، فمرتكز على ثلاثية الحرب اللبنانية والأفلام الرومانسية المصرية ولقاء الحب الجامع بين سمر، المقيمة بين المقاتلين في بلدٍ أنهكته الحرب، وكريم الذي سيُبدِّل حياتها ويُصالح جانبي الحرب وأفلام الحب في شخصيتها.

برنامج متواضع، لكنه ثريّ بنمط أساسي في اشتغال جوسلين صعب: حبٌّ عميق لمدينة تعيش حربًا، ولأناس يُقيمون في خراب، ولصُور تؤرِّخ لحظةً يُفترض بها أن تحضر بقوّة في الذاكرة، كي لا يُصيبها نسيان قاتل، هو فعليًا تجديد مبطّن للحرب.

المساهمون