"دار النمر" تحتفل بمارون بغدادي: بيروت والسينما

"دار النمر" تحتفل بمارون بغدادي: بيروت والسينما

27 اغسطس 2018
من "خارج الحياة" (1991) لمارون بغدادي (فيسبوك)
+ الخط -
تحتفل "دار النمر للفن والثقافة" في بيروت بالسينمائيّ اللبناني الراحل مارون بغدادي (1950 ـ 1993). تعرض 4 أفلام له في سبتمبر/ أيلول 2018، ضمن برنامج "ثلاثاء الأفلام". الخيارات متوافقة ورغبة تقديم مراحل مختلفة من السيرة المهنية ـ المفتوحة على الذاتي والحياتي والفكري والإنساني ـ للمخرج، الذي يتميّز عن زملائه في "السينما البديلة" بذهابه إلى فنّ الصورة التي تعكس شيئًا من الحكايات اليومية المتنوّعة، متحرّرًا ـ فيلمًا تلو آخر ـ من وطأة الإيديولوجيا والنضال. هو وزملاؤه فاعلون في بلورة مشروع سينمائي لبناني منفتح على الجغرافيا العربية وقضاياها وأحوال ناسها، وإنْ بأساليب ومشاغل مختلفة.

"السينما البديلة" متأتية من ردّة فعل سينمائيين لبنانيين عديدين على طغيان التسطيح والاستهلاكيّ والتجاريّ في صناعة أفلامٍ ترتكز على قصص مبسّطة وأساليب متأثّرة بحضور سينمائي مصريّ في لبنان، منبثق من سطوة قرارات التأميم الناصرية، وبمال فلسطيني يكترث، أولاً وقبل أي شيء آخر، بصُوَر تواكب أعمال الكفاح المسلّح ضد إسرائيل واليمين اللبناني، وترافق غليان الفكر الداعم للقضية الفلسطينية. "سينما لبنانية بديلة" لن تتغاضى عن الهمّ الفلسطيني، إذْ إنّ الغالبية الساحقة من صانعيها "متورّطون" به، ومثابرون على توثيق لحظاته، إلى جانب انغماسهم في أحوال لبنان واللبنانيين، إنْ يكن هذا على مستوى مشاغلهم اليومية المختلفة، أو بالنسبة إلى علاقاتهم بفلسطين والفلسطينيين، وبالعالم العربي وتبدّلاته وأحلام ناسه وخيباتهم.

سيكون مارون بغدادي أحد هؤلاء المهمومين بواقع البلد وناسه، وبواقع فلسطين وتأثيراتها الجمّة في الداخل اللبناني، وبواقع الحراك الثقافي والفكري والنضالي في بيروت، تحديدًا بين "نكسة حرب الأيام الـ6" (5 ـ 10 يونيو/ حزيران 1967) واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (13 إبريل/ نيسان 1975). هؤلاء سينهمكون في تلك الحرب، وسيجتهدون لإكمال مشاريعهم الخاصّة، أو بالمشروع المشترك بينهم: سينما لبنانية معنية بأحوال الناس. لكن الخيبات تتراكم، والاختناق المهنيّ والحياتي يزداد، وأبواب أوروبا مفتوحة لهم، فإذا بهم يُنجزون منها وعبرها ومعها وبفضلها أفلامًا لن تتغاضى كلّها عن الهمّ اللبناني، بدءًا من منتصف ثمانينيات القرن الـ20.



في البرنامج السينمائي لـ"دار النمر للفن والثقافة"، الذي تُعرض أفلامه المختارة مساء كل ثلاثاء بين 4 و25 سبتمبر/ أيلول 2018، يظهر مارون بغدادي في حالتين اثنتين، إنْ يصحّ التعبير: الإنتاج المحليّ المهموم بالبدايات الصاخبة للحرب الأهلية اللبنانية، والإنتاج الغربي المستمرّ في تفكيك أحوال لبنان وفوضاه وخرابه وجنونه. في الحالة الأولى، يتناول بغدادي لحظتين لبنانيتين: واحدة عشية اندلاع تلك الحرب، وثانية في أهوالها وتخبّطاتها الأولى المنتهية قبيل الاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان (1982). في الحالة الثانية، "يُرافق" السينمائيُّ أجانب مُقيمين في بيروت الحرب، كي يتوغّل في مسام البلد في أحد جوانب الخراب الكثيف الذي يعتمل فيه وفي أبنائه.

رغم أن "بيروت يا بيروت" (1975)، أول روائيّ طويل له يُعرض في الأمسية الثانية (11/ 9)، إلّا أن "حروب صغيرة" (1982)، المعروض في افتتاح البرنامج (4/ 9)، يتكامل معه في رسم صورة عن مدينة تغرق، يومًا بعد يوم، في دمارها وفوضاها وتمزّقاتها. الروائي الأول منشغلٌ بتوثيق الغليان البيروتي المتأتي من حراك محلي ويساري وعربي تعيشه المدينة مع شبابٍ ثائر يُريد تغيير كلّ شيء في السياسة والأفكار والعلاقات الاجتماعية والعيش اليومي؛ والروائي الثاني منصبٌّ على البنية الاجتماعية اللبنانية (إقطاع، صراع خفي ـ علني بين الطوائف/ المذاهب، العلاقات المبتورة أو المعطّلة بين شبابٍ ينتمون إلى شرائح مختلفة أو متناقضة في الاجتماع اللبناني، إلخ)، كما على "تقاليد" قديمة (الثأر مثلاً)، في ظلّ انشقاق حاصل جرّاء حربٍ طاحنة، يؤدّي إلى اصطفافات مليشياوية ـ سياسية لن تحول دون وقوعٍ دائمٍ في فخاخ البناء الطائفي اللبناني، بل إنها (الاصطفافات) ترجمة عملية لتلك الفخاخ.

فيلمان مصنوعان في لبنان قبل مغادرة مارون بغدادي بلده نهاية النصف الأول من ثمانينيات القرن الـ20. مغادرة لن تُبعده عن بيروت وأسئلتها الكثيرة، الملتبسة والمعلّقة والمفتوحة على جراحٍ لن تندمل أبدًا. في حين أن الفيلمين الآخرين ـ "لبنان بلد العسل والبخور" (1988) و"خارج الحياة" (1991)، وهذا الأخير فائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصّة في الدورة الـ44 (9 ـ 20 مايو/ أيار 1991) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ مناصفة مع "أوروبا" للدنماركيّ لارس فون ترير ـ سيعكسان شيئًا من خراب بيروت بعينٍ سينمائية تبتعد عن الحيّز المكانيّ كي تقترب أكثر فأكثر من الفضاء الإنساني لمدينة مثقلة بجروح وانكسارات ودمار.



فالأول (18/ 9) يُتيح لطبيبين فرنسيين ـ يعملان في بيروت أثناء أحد فصول موتها وعنفها ووحشية صراعات أبنائها ـ فرصة التقاط اليوميّ في أهواله، والحياتي في مشقّاته، والمُعاش في بؤسه. لكن الإتاحة هذه لن تمنع تنبّهًا إلى مقاتلين وهواجسهم ونبضات أرواحهم وتفاصيل انزلاقاتهم في جحيم المدينة. والثاني (25/ 9) يستلّ حكايته من "رهينة في بيروت" (1987) للصحافي الفرنسي روجيه أوك (1956 ـ 2014)، عن مُصوّر صحافي يُختطف، ويواجه موته يومًا بيوم، قبل أن يُطلق سراحه. وإذْ يبدو الأول منسجمًا وحساسية البُعد الإنساني في عمل الطبيبين، فإن الحساسية نفسها تظهر في شخصية المُصوِّر المخطوف، في علاقته بخاطفيه، وفي علاقة خاطفيه به أيضًا.

بعد ربع قرن على وفاته في 11 ديسمبر/ كانون الأول 1993، لا تزال أفلام مارون بغدادي ـ بحكاياتها ومواضيعها وأساليب اشتغالها وأسئلتها وهواجسها وجوانبها الدرامية والجمالية والفنية ـ قادرة على تحريض جميل لمزيدٍ من القراءات والنقاش، وجاذبة لمُشاهدات إضافية. ولعلّ برنامج "دار النمر للفن والثقافة" يُساهم، بطريقة ما، في إشاعة سجال نقدي إضافي بعد مُشاهدة نماذج حيوية من نتاجاته السينمائية.

المساهمون