جمال شحيّد: رواية الثورة السورية مدهشة

جمال شحيّد: رواية الثورة السورية مدهشة

19 ابريل 2016
جمال شحيّد (العربي الجديد)
+ الخط -

للمترجم والناقد السوري جمال شحيّد أكثر من وجه؛ يظهر ذلك في جمعه بين أمرين: غزارة الإنتاج والتدريس.
بدأ حياته بدراسة اللاهوت، وانعطف بعد ذاك صوب الأدب والنقد والترجمة من لغة موليير وإليها، وهو أيضًا أستاذ قدير، فقد درّس في جامعة دمشق وفي المعهد الفرنسي للشرق الأدنى والمركز الثقافي في دمشق. لشحيّد أزيد من ثمانية وعشرين كتابًا، ترجمًة وتأليفًا، والكثير من الطلاب والمريدين.



* أريد البدء من الثورة السورية، فقد قيل عنها أولًا إنها ريفية، ثم كان لـ "خروج الثوار من المساجد"، في البداية، طائفة من التأويلات منها أسلمة الثورة، وهذا بدوره قاد جدالًا ضدّ أو مع ذلك، فما رأيك بهذا كلّه؟

أولًا أنا لا أوافق على وصف الثورة السورية بأنها ريفية. الثورة السورية كانت ثورة شاملة، انطلقت من المدن، بدأت من درعا وانتقلت إلى حمص وحماة، شملت قرى وبلدات ومدناً عديدة. صحيح أن تاريخ سورية الحديث ارتبط بالفلاحين الذين تركوا أرضهم مع أولادهم وجاؤوا إلى المدن، وخاصة العاصمة دمشق - وهذه الظاهرة هي ظاهرة حزب البعث في مجمله - ولكن هذا لا ينطبق تماماً على ما حدث في سورية خلال السنوات الخمس الماضية. هي ثورة شملت الجزء الكبير من المحافظات السورية، كما إن القول بأن الثورة السورية ثورة إسلامية، هو غير صحيح. شاركتْ في الثورة قطاعات كبيرة من الشعب السوري بشتى طوائفه وأديانه، وإذا خرج الناس في بداية الثورة من الجوامع للتظاهر، فلأن الأجواء الأخرى لم تكن متاحة. كان الجامع هو الملاذ الذي يستطيعون الخروج منه للتظاهر. ولكن من سوء الحظ أن الثورة سُرقت من السوريين على يد المتشددين دينياً. الثورة التي تحولت إلى "دواعش" و"نصرة" ليست هي الثورة التي خرج لأجلها المتظاهرون السوريون الأوائل. كان هناك نصف مليون سوري خرجوا في حماة مثلاً، وهذا الأمر، أي القول فقط إن الثورة خرجت من الجوامع ليس توصيفاً دقيقاً للثورة. والأمر المأساوي في هذا الانقلاب على الثورة هو الذي طيّف الثورة والمجتمع، لسوء الحظ.



* وإذا نظرنا إلى الراهن السوري، فهل المجتمع السوري ما زال محصناً ضدّ النوازع الدينية الطائفية بمعناها الانقسامي؟ أم أنه تمزّق وبات من الصعب التئام هذا الجرح؟

حقيقة أن المجتمع السوري بات ممزقاً الآن، ويهجس بالطائفية. في الخمسينيات مثلاً كنا نقول إن الدين لله والوطن للجميع، حالياً إذا التقيت بمجموعة من الناس، يريدون أن يعرفوا من خلال اسمك إذا كنت مسيحياً أم مسلماً، يريدون أن يعرفوا طائفتك... الهمّ أو الهاجس الطائفي هو المسيطر حالياً للأسف. نحن بحاجة إلى إعادة تكوين أو خلق للإنسان السوري المتجاوز للطائفية.

* لذا يبدو لي أن الصراع السياسي - الثقافي في سورية يتحول إلى صراع على الهوية. كيف يمكن تجاوز ذلك؟ أفي بنية المجتمع السوري استعداد فكري ونفسي لكي يظهر هذ الصراع الهوياتي، أم أنه فُرض من فوق نتيجة التدخل الإقليمي والضغط الإعلامي. ما السبب برأيك؟ وما العمل حيال هذا الصراع؟

من المؤكد أنّ وسائل الإعلام تؤدّي دوراً كبيراً في توجيه الهوية الوطنية أو الهوية المناطقية، ولكن الإنسان الواعي أو المثقف - إذا كان فعلاً بعيد الأفق - فإنه يتجاوز هذه التقسيمات الجائرة بحد ذاتها، والتي تقزّم الهوية الجمعيّة.



الدين يلعب دوراً، الطائفة تلعب دوراً، الإثنية تلعب دوراً، المناطقية تلعب دوراً...، إذا كانت كل هذه المكونات جزءاً من الهوية السورية، فلا بأس، لأن هذا هو الواقع، ولكن أن تطغى إحداها على الأخرى وتختزل كل شيء، فهذه مشكلة. لنأخذ الأمور كما هي. في سورية 18 طائفة دينية، وهناك قوميات مختلفة. لماذا لا نتعامل مع هذا الواقع كما هو، ونتجاوز النظرة الضيقة، عبر اختزال الهوية في الإثنية أو الدين أو الطائفة فقط؟. التاريخ الصحيح هو الذي يجمع كل هذه السمات والانتماءات. في تاريخ الشعوب الأوروبية مثلاً أو بلدان العالم الثالث، إذا استطاعت هذه البلدان أن تتجاوز مفهوم الهوية الضيق فإنها تنطلق بسرعة نحو الحداثة، أما إذا بقيت متحجرة وركزت على الهوية المقزّمة، فإن هذا يمزق الهوية الجمعية، ونحن نريد بناء لحمة بين هذه المكونات، وليس تمزيق هذا البلد الذي نروم المحافظة عليه بكل ما نملك من قوّة.

* كيف يمكن ترجمة هذا المسعى سياسياً، من خلال نظام الحكم أو الدستور؟ أي احتواء التناقضات السورية من خلال نظام حكم جديد؟

في بلد متعدد مثل سورية، الحل الأمثل هو الوصول إلى نظام مدني علماني. النظام التعددي هو النظام الأسلم، ولا يتحقق إلا عن طريق نظام مدني علماني. وكم نحن بحاجة الى شخص مثل نيلسون مانديلا ليخلق مصالحة حقيقية بين السوريين الأعداء.


* كيف بدا دور المثقفين والكتّاب السوريين خلال الثورة؟ تمّ تشكيل اتحاد للكتاب السوريين، ثم خبا دوره. هناك إشكاليات كثيرة حول هذا الأمر، لم يكن هناك تنظيم قادر على جمع السوريين من خلال المساهمة النقدية والفكرية المواكبة للثورة.

في ما يخص المثقفين والكتّاب، الدولة بمنظورها الشمولي حاولت أن تجمع السوريين في اتحادات أو نقابات، ومنها اتحاد الكتاب العرب. ولكن هذه الاتحادات تمثل الدولة لدى الكتّاب ولا تمثل الكتّاب لدى الدولة. فإذا تعرّض الكاتب لمشكلة ما مع الدولة، الاتحاد لا يدافع عنه، بل بالعكس! الدولة حاولت أن تخلق نظرة واحدة ممثلة بهذه الاتحادات وهذه النقابات. وهذا لا يتماشى مع التعددية الإيديولوجية عند الناس. في أوساط المثقفين هناك تيارات عديدة: التيار الديني والتيار العلماني والتيار القومي...، إجحاف بحق المثقف أن نضع كل المثقفين في خانة واحدة، ولهذا السبب نشأت بعد الثورة جمعيات أو نشأت اتحادات جديدة قامت بها المعارضة ولم تنجح، لأنها كانت بمثابة ردة فعل على اتحادات النظام. لقد حاول بعض الكتّاب السوريين خلق اتحاد كتّاب مغاير لاتحاد السلطة، ويتمتع بحرية أكثر، ولكنهم حتى الآن لم ينجحوا في استقطاب العدد الأكبر من المثقفين السوريين. بشكل عام تبقى الجهود فردية. ولكن دعني أسألك: في فرنسا أو المانيا أو بريطانيا أو أميركا، هل هناك اتحاد للكتاب؟ هل نحن بحاجة لمثل هذا الاتحاد فعلاً؟

* أريد الانتقال إلى بداياتك في الترجمة والنقد وكيف تطورت مسيرتك في كلا الحقلين؟

أول مقالة كتبتها كانت عام 1965. كنتُ طالباً في الجامعة وكانت المقالة عن نيكوس كازانتزاكي، وحالياً أنا بصدد إعداد كتاب عن هذا الكاتب الذي بدأت أول كتاباتي عنه. كأن هذه البداية عملياً التي تمخضت خلال سنوات من القراءة والمتابعة تدفعني الآن للعودة إلى المنابع الأولى التي أثّرت فيّ. في ما يتعلق بالنقد، لدي خمسة كتب عن النقد، من بينها "الذاكرة في الرواية العربية"، "خطاب الحداثة في الأدب"، "في البنيوية التكوينية"، كما أشرفت على تنظيم أربعة مؤتمرات، إن كانت في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، أو بمناسبة دمشق عاصمة الثقافة العربية، وحرصت على نشر أعمال هذه المؤتمرات الأربعة. الكتب الأخرى مترجمة، ويبلغ مجموعها 23 كتاباً.


بدأت الترجمة بمبادرة شخصية. أول كتاب ترجمته، هو كتاب صغير لميخائيل باختين، "الرواية والملحمة"، صدر هنا في بيروت عن معهد الإنماء. كما ترجمت الجزأين الأخيرين من سباعية مارسيل بروست "البحث عن الزمن المفقود" بعد أن توفي صديقي إلياس بديوي الذي بدأ المشروع. اتصلوا بي من القاهرة كي أتابع ترجمة السباعية؛ في البداية تهيّبت، لأني أعرف الخلفية الترجمية المتميزة عند إلياس وتساءلت وقتها إن كانت لدي إمكانيات كي يتماشى عملي مع عمل إلياس بديوي. وفي النهاية قبلت المشروع تحدياً لنفسي. وصدرت السباعية كلها عن دار شرقيات في القاهرة. هناك كتب أنا اخترتها وكتب عُرضت علي. مثلاً اخترتُ رواية "السفينة" لجبرا إبراهيم جبرا لترجمتها إلى الفرنسية، وطُلب مني ترجمة "بريد بيروت" لحنان الشيخ، فترجمت هذين الكتابين مع صديق فرنسي هو ميشيل بوريزي. باقي الكتب عرضت علي، مثلاً عرض علي الراحل جورج طرابيشي ترجمة "المفكرون الأحرار في الإسلام"، وكلفتني المنظمة العربية للترجمة بنقل كتابَي جيل دولوز عن السينما، وعرضت علي أيضاً كتاب "المنهج" بجزأيه لإدغار موران. الطاهر لبيب عرض علي ترجمة ثلاثة كتب مؤخراً لـ "مشروع نقل المعارف" التابع لمملكة البحرين. بشكل عام أنا أترجم في مجال العلوم الإنسانية. وأفضل ألا أدخل في مجالات ليست من اختصاصي، كالكتب الاقتصادية والحقوقية والعلمية. ومعظم الناشرين يكلفونني بترجمة الكتب الصعبة.


* استعملت أمرين: التحدي والكتب الصعبة، هلا حدثتنا عن مهنة المترجم من داخلها إن جاز التعبير؟

مهنة المترجم هي مهنة شاقة وممتعة في آن. شاقة لأن المترجم يتعرض لمطبات لغوية وأسلوبية ومعجمية، ومطبات تتعلق بالمفاهيم والأفكار، وعليه أن يجد مكافئاً لها في العربية. ثمة كتّاب يكتبون بشكل مباشر ومستقيم، فتصل فكرتهم إلى المترجم بسلاسة، فيما هنالك كتاب آخرون يكتبون بشكل متعرج ومتاهي، فيحيّرون مترجميهم ويربكونهم.

أما المتعة فهي كثيرة، عندما ترجمت مارسيل بروست، كنت أقول لماذا هذا الرجل حار ودار وأعطاني جملة بثلاثين سطراً؟ لماذا اختار هذا الأسلوب الحلزوني واللولبي الذي ضيعني؟ ولكنني سرعان ما قلت يجب علي أنا أن أتلاءم مع أسلوب بروست وأتكيف مع جمله المتاهية. بشكل عام أنا راضٍ عن ترجمة الجزأين الأخيرين من السباعية؛ وبعدما صدرت ترجمة كتاب "المسرات والأيام"، في مشروع "كلمة" التابع لأبو ظبي، وهو كتاب كتبه بروست وعمره 24 سنة وأجواء السباعية موجودة فيه جنينياً وطوّرها في السباعية، شعرت بأن واجبي تجاه بروست قد تحقق. هناك كتب استفدت منها كثيراً، خاصة كتب جيل دولوز عن السينما وإدغار موران عن الفلسفة المعاصرة. الشيء الذي أصرّ عليه في الترجمة، هو أنني لا أقدم نصاً للنشر من دون أن أراجعه ثلاث مرات. في المحصلة أحاول الوصول إلى ترجمة عربية صافية وسلسة وبهية، لا تشتمّ منها رائحة الترجمة.


* معرفتك الوافية هذه، تقودني لسؤالك عما إن كنت تكتب شيئًا خارج النقد والترجمة. هل لديك مثلًا يوميات في دمشق؟

ليس لدي أي طموح لأن أكتب مذكراتي. طموحي هو أن أنهي كتاب كازنتزاكي. أن أكتب عدداً من الدراسات الأدبية وأن أتابع الرواية السورية الحالية أكثر من ذي قبل. الرواية السورية في السنوات الأخيرة تسترعي اهتمامي أكثر فأكثر.

* لماذا عدت إلى كازنتزاكي مرة أخرى؟

تعلّمي اللغة اليونانية في صباي يعيدني إلى المنابع الأساسية لثقافات الشرق الأوسط القديمة. أهتم بكازنتزاكي لأنه وريث هذه الحضارة العريقة التي تركت بصماتها على حضارات البحر المتوسط، فهو يمثل امتداداً متعاقباً من هوميروس حتى ستينيات القرن الماضي. خلفية القرون الأغريقية الطويلة تستحضرني، أكان ذلك من الناحية الفكرية أم من الناحية اللغوية. كازنتزاكي هو ابن عصره، بالإضافة إلى أنه ابن الثقافة الهيلينية على مر العصور. وهو بالنسبة لي همزة وصل بين العالم القديم والعالم المعاصر؛ إضافة إلى توجهات خاصة به، كالتصوف والعلمانية والنظرة الدينامية إلى الدين، خاصة إلى شخصية المسيح، كما بدت في رواية "الإغواء الأخير للمسيح". درست اليونانية الحديثة سنة واحدة واليونانية القديمة ثماني سنوات. حالياً أنهي ترجمة عن أصول الفكر اليوناني من خلال كتاب لجان ببير فرنان، وسابقاً ترجمت له كتاب "الأسطورة والسياسة"، وكلاهما أعاداني إلى أحضان الحضارة اليونانية، أم الحضارات المتوسطية.

* قبل أن أنتقل لسؤالك عن الرواية السورية أريد سؤالك، لماذا اخترت المقارنة بين إميل زولا ونجيب محفوظ موضوعاً لدراستك الجامعية؟

كان تحليل زولا لصعود البرجوازية في فرنسا يشبه نوعاً ما تحليل محفوظ لصعود البرجوازية الصغرى مع حزب الوفد من عام 1919 وحتى قدوم عبد الناصر. هذه البورجوازية التي كانت ناشطة في البداية استلمت السلطة مع نابوليون الثالث، وشكّلت مفاصل الدولة بالنسبة للمؤسسات الحاكمة، لكنها أحبطت بعد أن احتل بيسمارك فرنسا عام 1870، ثم اندلعت ثورة الكومونة وفشلت. وبقيت البورجوازية مصرّة على البقاء. الأمر نفسه حصل تقريباً في رواية محفوظ. كان الوفد حزباً ناشطاً في العشرينيات، لكنه بدأ يتفسخ ويتلاعب به الملك فاروق، حتى الانقلاب العسكري الذي قام به الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر. بعدها شعرت هذه البورجوازية المصرية بأن كل شيء قد انتهى، وبأن طموحاتها سقطت. فتأسست دولة المخابرات وازداد القمع شيئاً فشيئاً مما فاقم إحباطها.


*هل يصلح أدب نجيب محفوظ وثيقة اجتماعية عن حال مصر؟

نعم، خاصة في المرحلة الثانية عنده، أي مرحلة الرواية الاجتماعية (مع الثلاثية خصوصاً). لقد ظهرت الطبقة الوسطى في شخصية كمال عبد الجواد، الذي بدا الممثل الأكبر للجيل الأوسط بعد جيل والده الذي عاش على الزيف، تلك الشخصية الصارمة القاسية الماجنة في آن. أما جيل كمال فهو الذي درس الفلسفة في الجامعة، وحاول أن يكتب، لكن التحولات الاجتماعية أحبطت طموحاته. وبرز الجيل الثالث، جيل الإخوان المسلمين والشيوعيين. محفوظ مرّ بمراحل لم يمر بها زولا. بقي زولا في المرحلة الطبيعانية، وبقي وفياً للتاريخ، وكان حريصاً على ألا يقدم أي معلومة من دون أن تكون موثقة. محفوظ بدأ بالرواية التاريخية، ومن حسن الحظ أنه أهمل مشروعه لكتابة ثلاثين رواية تاريخية! ودلف إلى الرواية الاجتماعية من بابها العريض، وتلتها المرحلة الفلسفية والفكرية بدءاً من رواية "اللص والكلاب" حتى أيامه الأخيرة، وهي الأجمل بين جميع مراحله. استفاد من تقنيات السينما كثيراً كما في رواية "ميرامار" بخاصة.

* وماذا عن بدايات الرواية السورية، هل من نقاط تقاطع مع الراوية المصرية؟

هناك شبه، لكن أهمية الروائيين المصريين لم يوجد لها مثيل حتى بداية السبعينيات في سورية. إذا عدنا إلى الرواية في بلاد الشام، في بيروت مع سليم البستاني، وفي حلب مع فرنسيس مرّاش، للاحظنا تسيّد الرواية التاريخية، خاصة مع جرجي زيدان ومعروف الأرناؤوط. كأن العرب في تلك الفترة التي فيها غدرت الدول الأوروبية بالثورة العربية الكبرى، أرادوا أن يقولوا بشكل غير مباشر: لدينا تاريخ مهم، فكيف نسمح للعثمانيين والمستعمرين بأن يحتلونا ويذلونا.

الرواية السورية نشطت بعد عام 1967 وطغا عليها الجانب الإيديولوجي. كانت الرواية هي الفن الأدبي الذي يستطيع أن يتحايل على الرقابة التي اشتد عضدها بعد أن استلم العسكر الحكم في سورية. ذلك لأن الرواية فنّ ماكر يستطيع أن يمرر أشياء لا ينتبه إليها الرقيب. وبسبب هذه الأجواء، انتعش فن الراوية في سورية، وحتى الآن هو الفن الطاغي في الأدب.

* أيّ الروائيين السوريين تجاوز المرحلة الواقعية في كتابة الرواية؟ وكيف تجد نقد الرواية السورية؟

طبعاً هناك العشرات من الروائيين المهمين في سورية، من أمثال حنا مينة ووليد إخلاصي وعبد السلام العجيلي وفواز حداد ونبيل سليمان وسليم وبركات وممدوح عزام وخالد خليفة وخليل صويلح...، وهم عماد الرواية السورية.
لكن ما يلفت النظر، ظاهرة الروائيات السوريات. ومن بينهن غادة السمان وكوليت خوري ومها حسن وسمر يزبك وروزا ياسين حسن وشهلا العجيلي ولينا هويان الحسن... اللواتي أثرين الرواية السورية. أما بالنسبة للنقد، فقد صدرت عشرات الدراسات عن الرواية السورية منذ الخمسينيات حتى الآن. ومع ذلك لست مقتنعاً بأن الراوية السورية أخذت حقّها من النقد العلمي المعمّق.

* يقال إن الراوية السورية، بمكان ما، هي إسقاط لنماذج جاهزة على المتن الروائي. أي أنها رواية يغيب عنها الفرد، فيما تحضر صورته السابقة عليه. ما رأيك؟ هناك رجل السلطة، هناك الشخصية المؤدلجة.

ربما كان النقد الأول عن الرواية السورية يركّز على هذه النماذج: الريفي والمديني، رجل السلطة والرجل المؤدلج، القومي واليساري و"الإخونجي"، وهكذا. لكن الراوية السورية تجاوزت هذه التأطيرات المبتسرة. صارت الرواية نصاً مفتوحاً، وهذا النص متأثر بالرواية العالمية، وخاصة بالرواية الجديدة في فرنسا وبريطانيا. النص الروائي الحالي هو نص متشعب، نص له بداية، ولكنه لا ينتهي عند آخر صفحة من الكتاب.
لكي يكون هناك توزان بين الجمالي - الفني، والتوثيقي - الاجتماعي، أنا أميل إلى النص الذي يكشف عن مطواعية ودينامية اللغة العربية الفصحى. الرواية حالياً تتكلم باسم الناس العاديين. ومعظم الراوئيين يميلون إلى الدمج بين العامية والفصحى. خذ كلمة "مشوار" مثلاً، يمكن أن تترجم بكلمة نزهة أو فسحة أو جولة. لكن تبقى لكلمة مشوار نكهة شعبية خاصة، ولا يجوز التفريط بها. إضافة إلى أن الروائيين الجدد يميلون إلى الاستفادة من العلوم المجاورة للأدب مثل السينما والفن التشكيلي وثورة الاتصالات الحديثة. الرواية الحالية عبارة عن نص زئبقي، يبرز تناقضات الإنسان وتردداته وتوتراته وصبواته وتطلعاته وخيباته. وهذه كلها لا تظهر فقط في الموضوع، بل في النسيج الأسلوبي واللغوي للرواية.

* الشعر يتراجع والرواية تتقدم. هل الأدب السوري يجد تجليه في الشعر أم في الرواية؟

هذه ظاهرة عالمية. عندما كنت طالباً في باريس ذهبتُ مرتين إلى نادي الشعراء. ولاحظتُ حينها، إبان السبعينيات، أن عدد الموجودين لم يكن يتجاوز العشرين شخصاً، مما يدل على أن جمهور الشعر خفّ وتقلص كثيراً. في الخمسينيات – وبُعيد الحرب العالمية الثانية - كان هناك جمهور حاشد يستمع لأراغون وإيلوار وبريفير. بالمقابل، نرى أن الظاهرة الجماهيرية لحضور القصائد التي ألقاها نزار قباني ومحمود درويش لم تعد موجودة الآن. من ناحية المقروئية، الرواية تُقرأ أكثر في الوقت الراهن. الرواية تقرّب القارئ من المجتمع أكثر من الأنواع الأدبية الأخرى، فهي الناطقة باسم الراهن والمعيش في الحياة اليومية.

* مقابل حدث استثنائي هو الثورة السورية، كيف كان حضور الكتاب السوريين؟ هل استطاعوا أن يكونوا معبراً موازياً. أم أنهم انكفأوا وظلوا مترددين؟

رواية الثورة السورية مدهشة من ناحية الكم. والناقدة المصرية شيرين أبو النجا أشارت في مقالة حديثة لها إلى إعجابها الشديد بغزارة ما صدر في سورية خلال السنوات الخمس الأخيرة، هناك ما يقارب خمسين رواية.
المأساة السورية تناولها الكثير من الكتّاب. بدأ قسم من الشباب يلمع. الجيل الذي سبق جيل الشباب أبدى نشاطاً لافتاً، كما هو الحال مع فواز حداد ونبيل سليمان وخالد خليفة وخليل صويلح وروزا ياسين حسن وسمر يزبك وآخرين. ثمة محاولة للكتابة بناءً على معطيات توثيقية تحظى بالصدقية، محورها الحدث السوري أو المأساة السورية. بعض هذه الروايات ناجح ومتميز وبعضها فيه عواطف جياشة ومكتوب بتقنيات فنية متواضعة.




المساهمون