طرابيشي.. "المهرطق" الذي بقي مشدوداً إلى الموروث

طرابيشي.. "المهرطق" الذي بقي مشدوداً إلى الموروث

29 مارس 2016
جورج طرابيشي(العربي الجديد)
+ الخط -
فقدت الثقافة العربية، بوفاة المفكر السوري، جورج طرابيشي، علماً من أعلامها، الذي قضى حياته في الاشتغال الفكري والنقدي، وأثار سجالات ونقاشات عديدة حول آرائه في النهضة والديمقراطية والتراث والعقل العربي، ودخل في جدل مع العديد من المفكرين والباحثين العرب طوال سيرته الفكرية، وخاصة المفكر المغربي، محمد عابد الجابري، حيث سخّر سنين طويلة من حياته البحثية والفكرية، كي يرد، ويفنّد، أطروحاته في نقد العقل العربي، ضمن مشروع، أسماه "نقد نقد العقل العربي"، الذي أثمر خمسة مؤلفات، ثم أضاف إليها مؤلفات أخرى لتطول سنوات السجال مع أطروحات الجابري.
وكان من الأجدر لجورج طرابيشي في مشروعه، أن يصرف جهده الفكري في "نقد نقد العقل العربي" على إنجاز مشروعه الخاص في قراءة التراث العربي الإسلامي، لكنه كان يرى أن رده على الجابري يقدم له نقطة انطلاق لإعادة حفر، وإعادة تأسيس، وإعادة قراءة للتراث العربي، إيماناً منه أن نقد النقد يرسي رؤية بديلة، ويقدم قراءة نقدية وعقلانية مغايرة ومجددة معاً للتراث العربي والإسلامي.
في كتاب جورج طرابيشي "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" (2010) ينتاب القارئ في البداية شعور بعدم السرور لعدم العثور على اسم المفكر الراحل محمد عابد الجابري، مع أن من المفترض أن يكون هذا الكتاب هو الجزء الخامس من سلسلة "نقد نقد العقل العربي"، أو بالأحرى نقد مشروع الجابري، لكن ذلك الشعور ما لبث أن تبدد مع التقدم في قراءة صفحات الكتاب، إذ يحضر محمد عابد الجابري، بصفته "الناقد الافتراضي للعقل العربي"، مع كل ما يحمله هذا الاعتبار من حمولات وإحالات، والشخص الذي ارتكب "مغالطة إبستمولوجية كبرى" لا تمس فقط موقف أبي حنيفة من العقل، بل تمس كذلك مشروطية العقل في موسوعة الفقه المتحالف مع الحديث، كما يحضر بوصفه صاحب "قراءة غالطة ومغلّطة للظاهرية الحزمية" (نسبة إلى ابن حزم). ثم يغيب الجابري عن باقي صفحات الكتاب، لأن ما كان قد تجمع لدى طرابيشي من معطيات أغناه عن نقده، لتنتهي ملاحقة "سقطاته"، وتفنيد أطروحاته وآرائه.
وأراد طرابيشي ردّ الاعتبار إلى عقلانية الموروث القديم، من خلال تصديه لأطروحات الجابري، معتبراً أن الأخير تبنى أطروحات مدرسة بعينها من المستشرقين، وأسقط على الإسلام تاريخ صراع الكنيسة مع الهرمسية الوثنية والغنوصية الهرطوقية والديانات العرفانية، ومع الأفلاطونية المحدثة التي مثلت خط الدفاع الأخير عن العقلانية اليونانية، وعليه فإن الجابري مارس في ساحة الثقافة العربية الإسلامية ضرباً من استشراق داخلي أسير لمركزية مزدوجة، غربية ومسيحية في ذات الوقت.
وانحاز جورج طرابيشي إلى "الهرطقة" بوصفها فعلاً، ينهض على سلوك أحد السبل المتاحة للمقاومة في عصرنا، الذي تسوده أنظمة الهيمنة والاستبداد والأصوليات والنكوص العربي نحو قرون وسطى جديدة. واعتبر المهرطق هو من يأتي بما يخلخل المألوف والسائد ويخرج عنه، ويصح القول كذلك، على أنه الخارج عن الإجماع والفكر الجماعي.
وما أثار حفيظة طرابيشي هو أن القراءة، التي قام بها الجابري للتراث العربي الإسلامي،
اتسمت بتوقفه عند نقطة مفصلية، تتجسد في ضرورة إبراز الاختلاف بين التجربة الفكرية التي عرفها المشرق العربي، والتي وصلت في النهاية إلى ما سماه "العقل المستقيل"، وبين التجربة الفكرية كما تجلت في المغرب العربي، وأفضت إلى تأسيس النظام البرهاني، وجعله ركيزة لا بد منها، حيث اعتبر أن ابن سينا المشرقي هو ممثل الانحطاط الفكري والتخلّف عن قواعد العقلانية، في مقابل ابن رشد المغربي الأرسطي النزعة والعقلاني الهوى. لذلك، فإن كل محاولة للقيام والنهوض في الحضارة العربية الإسلامية المعاصرة، يجب أن ترتكز إلى نموذج مستمد من التراث، ليس بغريب عنها، ينحصر في ابن رشد في ما يتعلق بالفلسفة، وفي ابن حزم والشاطبي في ما يخص علم أصول الفقه والتشريع الإسلامي.
وحطّ الجابري من شأن كل ما وضعه في إطار "العقل المستقيل"، الذي تخلّى عن مهامه خاضعاً لألاعيب الرمز والخيال والمجاز، ومن بعض مظاهر وتجليات الأنسية العربية في القرن الرابع الهجري، والعقلانية المعبّرة عن عطش الروح للمعرفة والفهم مع السجستاني ومسكويه والتوحيدي والعامري وغيرهم، حيث اعتبره الجابري انتقاصاً من مستوى التفكير العقلي والتجريد الفلسفي لصالح المقابسات والأدبيات الشائعة، ورأى أن هذا التدهور في الإنتاج الفكري، قد أوقفه لاحقاً مفكرو المغرب العربي من مثل ابن رشد وابن خلدون.
وكان السؤال الذي طرح طرابيشي، هو، هل استقالة العقل في الإسلام جاءت بفعل عامل خارجي، وقابلة بالتالي للتعليق على مشجب الغير، أم هي مأساة داخلية ومحكومة بآليات داخلية، يتحمل فيها العقل العربي الإسلامي مسؤولية إقالة نفسه بنفسه؟
لقد أعاد هذا السؤال، من جديد، علاقة الداخل مع الخارج، التي كُتب عنها وقيل فيها الكثير، فحين كان الجابري يقول باستقالة العقل في الإسلام، كان طرابيشي يقول بإقالة العقل في الإسلام، وحين كان الجابري يعتبر أفول العقلانية اليوناني كان سبباً، فإن طرابيشي كان يقول بأنها كانت نتيجة، وهكذا كان علينا الدوران في فلك المقولات وعكسها.
واعتبر الجابري أن الموروث من القدماء (اليونان) هو المحدد الثالث للعقل العربي، وهو ينطوي على نظام يعارض "المعقول الديني"، من جهة اعتقاده بأن العقل البشري عاجز عن تحصيل أية معرفة عن الله من خلال تدبر الكون، بل يرى أن معرفة الإنسان للكون عليها المرور عبر اتصاله المباشر بالحقيقة العليا. وهذا النظام المعرفي هو "اللامعقول الفعلي"، إنه العقل المستقيل الذي يطلق عليه الجابري اصطلاح "العرفان".
وحاول طرابيشي، من خلال تصديه لأطروحات الجابري، أن يرد أفول العقلانية العربية الإسلامية إلى أسبابها الداخلية، وإلى آليات ذاتية، غير قابلة للتعليل بأي حصان طروادة إيديولوجي أو إبستمولوجي متسلل من الخارج، وبالتالي لم يخرج السجال عن إطار محاولات البحث عن أسباب وحيثيات الإخفاقات التي مرّ بها الوضع العربي، والذي أفرز حالات من التخلف والتبعية والانهيار والهزائم على مختلف الصعد، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لكن الملاحظ في نقد العقل العربي ونقد نقد العقل العربي هو غياب مفهوم واضح ومخصوص لمفاهيم العقل والعقلانية واللاعقلانية وسوى ذلك كثير.
وبوصفه كاتباً لازمه النقد، فإنه لم يكف عن طرق وطرح الإشكاليات التي لا تنقطع بجواب، ويشدها الانتظار إلى تربة توفر لها شروط الإمكان لإجابة تحقق رؤية واضحة، ولا تكف عن الاعتناء بإعادة صياغة الأسئلة التي تحث الوعي على البحث عن الأجوبة الجديدة التي تعيد بدورها صياغة الإشكاليات، وهي كثيرة في مجالنا العربي، ليس أولها إشكالية الديموقراطية، وليس آخرها إشكالية الحداثة والممانعة العربية.

إشكالية الديموقراطية
نظر طرابيشي إلى الديموقراطية بوصفها واحدة من أكثر الإشكاليات المطروحة بإلحاح في الفكر السياسي العربي والثقافة العربية اليوم، وما يؤكد طابعها الإشكالي هو الترويج لها وكأنها إيديولوجيا خلاصية جديدة، لكنه اعتبر أن المثقفين العرب باتوا يراهنون اليوم على الديموقراطية، مثلما راهنوا في الأمس على الاشتراكية، وقبل أمس على الوحدة العربية، حيث جرى، وفق منطق المعجزة، تحويل الديموقراطية في المخيال العربي، بعد فشل الإيديولوجيات القومية واليسارية الثورية، إلى كلمة "سمسم" بديلة لفتح مغارة الحداثة المستغلقة ولتحقيق نقلة عجائبية، بلا مجهود ولا كلفة ولا زمن، من واقع التأخر إلى مثال التقدم.
وصاغ طرابيشي ستة إشكاليات حول مسألة الديموقراطية، أولها إشكالية المفتاح والتاج التي تتجسد في القول بأن الديموقراطية ليست المفتاح الذي نفتح به جميع الأبواب المقفلة، بل على العكس من ذلك الديموقراطية هي التاج الذي يتوّج التطور العضوي للمجتمع المعني، أي هي نتيجة وحصيلة لتطور مجتمع بعينه. وثانيها إشكالية الثمرة والبذرة التي ترى الديموقراطية بذرة برسم الزرع وليست ثمرة يانعة برسم القطف.
وثالث الإشكاليات هي إشكالية مفتاح المفتاح، بمعنى أنه قبل أن تكون الديموقراطية مفتاحاً لجميع الأبواب الأخرى، فإنها هي نفسها بحاجة إلى مفتاح، أي أن الديموقراطية مشروطة بشرط الحامل الاجتماعي لها، وهو البورجوازية التي مازالت البلدان العربية تدفع ثمن تغييبها وإفقادها اعتبارها الإيديولوجي.
ورابع الإشكاليات هي إشكالية الشرطي ورجل المباحث، حيث يستحيل الشرطي إلى رمز للقانون، أي رمز للدولة، في حين يمثّل رجل المباحث السلطة المتسلطة على الدولة والمجتمع، وتغيب أمام سطوته سلطة القانون وتختفي الدولة. وإن كان لا ديموقراطية مع رجل المباحث، فإنه لا ديموقراطية أيضاً بدون رجل الشرطة. وخامس الإشكاليات هي إشكالية الذئب والحمل التي تعبر عن نزعة شعبوية تختصر في شعار: "الدولة ضد الأمة"، فالدولة ذئب والأمة حمل، حيث يحمل منطق تأثيم الدولة وتبرئة "الأمة" أو الشعب" بين طياته جرثومة شمولية جديدة، والمؤسف أن الفكر الديموقراطي الشعبوي يضع كل رهاناته على الشعب، فيؤبلس الدولة ويُؤمثل الأمة، ولا يقيم بينهما إلا علاقة جلاد وضحية. وسادس الإشكاليات وآخرها، هي إشكالية الصندوقين، صندوق الاقتراع وصندوق الجمجمة، حيث تنطلق من الصندوق الأول وتختمر فيه جمجمة الرأس، فإن كانت الأنظمة العربية لا تتحمل انتخاباً حراً، فإن المجتمعات العربية لا تتحمل رأياً حراً، بمعنى أن المجتمع يريد الديموقراطية في السياسة، ولا يريدها في الفكر أو الدين أو الجنس.

المقاربة الثقافوية
 ولم تتضمن كتبه المسخّرة لنقد نقد العقل العربي: "نظرية العقل" و"إشكاليات العقل العربي"، و"إشكاليات العقل العربي"، و"العقل المستقيل"، و"من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث"، جهداً فكرياً كافياً لتحديد مفهوم العقل في الفكر العربي رغم امتداد الفترة الزمنية التي تناولها مشروع نقد النقد الذي انبرى له، فراح يبحث عن إشكاليات الإطار المرجعي للعقل العربي في عصر التدوين، وعن إشكالية اللغة والبنية اللاشعورية لهذا العقل، فغاب مع هذا مفهوم العقل، وتمت مصادرته على حساب إشكاليات ثقافية عامة، غاص فيها طرابيشي كي يرد على الجابري ويثبت له صفة العقل للعقل العربي.
ووقع طرابيشي في تفاصيل المقاربة الثقافوية، التي سوّقتها، على مدى عقود عديدة، أوساط فكرية وثقافية غربية، ورددتها بعض الأوساط الفكرية والثقافية العربية، وأشاعت أفكاراً ونظريات وأطروحات، أجمعت على أن المجتمعات والشعوب العربية تمتلك خصائص وطباع معينة وثابتة، تجعلها مختلفة عن جميع المجتمعات البشرية الأخرى، وأن الشعوب العربية لها قوانين تغير وتطور لا تشارك بها قوانين التغير والتطور المطبقة على الشعوب الأخرى، وأطلقت هذه الأطروحات والآراء ما كان يسمى "الاستثناء العربي".
غير أن المشكلة هي كون جورج طرابيشي، ومعه معظم أصحاب المقاربة التراثية، يرون أن أسباب تردي الحاضر نجدها في الماضي ومؤامراته، وكأن الحاضر ليس سوى استمرار لمجرى الماضي الذي لم يمض أبداً، وبالتالي ليس هناك اختلاف بين الناس والظروف والمعطيات، بالرغم من إقرارهم اللفظي بالاختلاف أحياناً. ويقترب أصحاب المقاربة الثقافوية مع أصحاب النظريات الأنثروبولوجية، التي تغالي بالادعاء بوجود عقل جامع مانع، ووجود سمات وطبائع ثابتة على مرّ العصور، تميِّز الشعوب والأمم عن بعضها بعضاً، وتفعل الرؤية جوهرانية فعلها في الشخصية والهوية والطبائع، حتى يتوهم المرء بأن لكل أمة طبعها الخاص، وحسب نقاد العقل العربي الإسلامي، هناك عقل خاص للعرب والمسلمين، متوارث أباً عن جد، ولا يتغير بتغير الأحوال والتواريخ، فضلاً عن وجود مجتمع إسلامي موحد، يمتد من أقصى الشرق وصولاً إلى أقصى المغرب العربي.
وقد ضربت الثورات العربية، التي جرت في كل من سورية وتونس ومصر وليبيا وغيرها، عرض الحائط، بجملة المقولات الثقافوية والماهوية والجوهرانية، التي نهضت على تلك الخصوصيات الدينية والثقافية، وأسالت حبراً كثيراً في الكتابة عن الاستعصاء العربي حيال الديمقراطية والحرية وممانعة الحداثة، وعن الخنوع والذل، بل والرضا العربي بالاستبداد والمستبدين، والاستئناس بالظلم والظالمين.
وللأسف، تعامل عدد من المفكرين العرب مع التراث بوصفه قوة حاضرة لم تخرج من حيثيات الحراك الإنساني الحاضر، واعتبروا أن حضور التراث في الذاكرة العربية الجمعية يعني أن الإسلام لا يزال يلعب دور المحرك للتاريخ العربي، في مختلف لحظاته وتجلياته وتقلباته في مخلف الميادين. وإن كان تناول التراث محور اشتغالهم الفكري، ونقدهم للعقل كذلك، فإن إلصاق المحدد العربي لهذا العقل عنده، يشي بأن العقل المدروس هو عقل يتعين بالتجربة العربية، تفكيراً ولغة وقواعد وسواها. لذلك كان همّهم يتحدد في نقد المعنى وفحصه بغية تصنيفه.

المساهمون