تلك الاستقالة في حركة النهضة

تلك الاستقالة في حركة النهضة

20 مارس 2020

(عبد الحميد الجلاصي)

+ الخط -
استقال من حركة النهضة التونسية القياديّ فيها، عبد الحميد الجلاصي. وذكر في نصّ استقالته أنّ تجربة الحركة في تسع سنوات جعلت الخلل يصيب "المنظومة الفكريّة ومنهج التعامل مع الآخر وفلسفة التنظيم والتربية ونمط الحوكمة واتّخاذ القرار". ويمكن تفصيل هذه العبارة الجامعة في مشكلات القيادة والبرنامج والقاعدة. 
تتمثّل مشكلة القيادة في تضخيم موقع الرئيس وسلطته، وإضعاف مؤسّسات الرأي والقرار (المكتب التنفيذي ومجلس الشورى)، فأصبحت الحركة تعيش حالة غير مسبوقة من "مَرْكزة في الموارد والمصالح والقرار في الكبير والصغير"، وتحوّلت من مشروعٍ يديره الرئيس إلى حركة الرئيس الذي أبِّدت سلطته، وأصبح ممثّلا لاتّجاهٍ يدعمه فيها لا ممثّلا لها كلّها. وصارت "النهضة" تُدار بالقرابة وأهل الثقة، واحتكرت الجماعة الغالبة فيها العلاقات الداخليّة والخارجيّة، واحتكرت المال واستعملته للترويض والعقاب. وأُقحِمت الحركة في منظومة الحكم (السيستام)، ودُفِعت إلى تمرير القوانين التي تخدم فئاتٍ اجتماعيّةً بعيدةً عن القاعدة الانتخابيّة. ومُنع نشر التقييمات الداخليّة والمراجعات ومحاولات الإصلاح.
هذا الخلل في قيادة الحركة جعلها تتحوّل إلى حزب مستعدّ لمقايضة أيّ شيء من أجل البقاء في محور العمليّة السياسّة، واستُنزف الرصيد الأخلاقيّ والقيميّ الذي استمدّت منه الحركة في نشأتها هويّتها ومشروعيّتها. ويضاف إلى هذا التحوّل السلبيّ ما اقتضاه إكراه المشاركة في الحكم من خروج من السريّة إلى العلن، ومن تحمّل أعباء الحكم، من غير استعداد، بجماعةٍ انتهت صلاحيّتها التاريخيّة، فاختلط عندها الفكريّ بالاستراتيجيّ والسياسيّ في قضايا كثيرة، منها الثورة والإصلاح وموقع الدين في السياسة. وكلّ ما أصاب القيادة والبرنامج أوجب طرح أسئلة مهمّة: النهضة من أجل ماذا؟ والسياسة من أجل ماذا؟ وما رؤية الحركة وما مشروعها؟
وأمّا القاعدة الانتخابيّة الصلبة فكانت مقطوعةً عن مشكلات القيادة والبرنامج. وعبّر الجلاصي
 عن سلبيّها بقوله إنّ الرأي العام في الحركة طيّب، يثق بقيادته ثقته بالصحابة. لهذه المشكلات (في القيادة والبرنامج والقاعدة) أسباب أهمّها ثلاثة:
أوّلها، اختلاط التقاليد المتنافرة، ففي "النهضة" تقليدُ الحزب السياسي بمكتبه التنفيذي ومجلس شوراه وانتخاباته الداخليّة وسائر أنشطته ورتبه الحزبيّة؛ وتقليدُ الفرقة الدينيّة في تقديس القيادة و"تحريم" الخروج عليها، وحبس القاعدة الشعبيّة في وظيفة السمع والطاعة. وقد جعل هذا التقليد الأتباع كتلةً بشريّةً ضخمةً تحرّكها المفاهيم الدينيّة، لا السياسيّة، فهي مثلا تصنّف قادتها بمعيار الفضائل والمناقب، ومنها التديّن وحفظ القرآن والصبر على الابتلاء، حتّى كثرة العلاقات الدوليّة وتأليف الكتب ونيل الجوائز تعتبرها مناقب دينيّةً وشهادةَ اعتراف من خارجٍ مخالف أو محايد. والتقليدُ الثالث الحكم العائليّ في علاقات القرابة والمصاهرة بين جهات غالبة فيها، تعمل على تأبيد سلطتها وإمساكها بزمام العلاقات الخارجيّة والموارد الماليّة وبقائها في موقع القيادة.
والسبب الثاني، إنكار التطوّر التاريخيّ، فقد نشأت النهضة (كانت تسمّى "الجماعة الإسلاميّة" ثمّ "حركة الاتّجاه الإسلاميّ") حركةً دينيّةً سياسيّةً، جوهر برنامجها إحياء الإسلام وإعمال قيمه ومبادئه ومغالبة العلمنة والتغريب. وكانت عند جمهور أتباعها صرخةَ المستضعفين ونداءَ الإسلام المحاصر بسياسة الدولة العلمانيّة والمؤامرات الغربيّة. وكانت أغلبيّة الأتباع عند نفسها صادقةً في خوفها على الإسلام، ودفاعها عن الهويّة العربيّة الإسلاميّة وانتمائها إلى الحركة، فقدّمت في سبيلها مالها وحياتها وحرّيتها. كانت حركة "إنّهُمْ فِتْيةٌ آمنوا بربِّهِم وزِدْناهم هُدًى". ثمّ جاءت نهضة مونبليزير (باسم مقرّها اليوم) في 2011، بسلطتها وثرائها وعلاقاتها الخارجيّة وقادتها العائدين من الغرب، وتوافقها ومصاهراتها ومصالحها المعقّدة. وظلّت أغلبيّة أتباعها تقيس الزمنَ والفكرَ والانتماء الحزبيّ بساعة التسعينيات، وتصرّ على أنّ نهضة مونبليزير نسخة مطابقة لحركة الاتّجاه الإسلاميّ. وأمّا الكتلة الغالبة من مهندسي سياسات "النهضة" فيقولون إنّ الحركة واحدة، ثمّ يفتحون لأنفسهم سبلا متشعّبة من العلاقات والمصالح، وتأبيد السلطة في الحركة، ويتصرّفون في تاريخها باعتباره رصيدا وجدانيّا يحرّك جمهورا عريضا من القاعدة، ويُنقل بأقدار متفاوتة إلى ناشئتها من الجيل الإسلاميّ "العلمانيّ"، الذي لا يكاد يعرف شيئا من تاريخ الحركات الإسلاميّة في تونس وفي العالم، ولا يملك ثقافة دينيّة كثقافة أسلافه، ولا يكاد يهتمّ بذلك، ويكتفي بتديّنٍ "خفيف" مشكّل من مواقع التواصل والثقافة الدينيّة المدرسيّة، وقد يكتفي بالولاء السياسيّ من غير الالتزام بالعبادات والقيم.
والسبب الثالث عدم النظير، فالقيادة في "النهضة" مقسومة بلا عدل بين راشد الغنّوشي وأصوات أخرى في الحركة قد توافقه وقد تخالفه، وهي في كلّ حال مغلوبة له. ولا يوجد في "النهضة" 
من يضارع الغنّوشي فضلا عن وجود من يستطيع تجاوزه. معضلة "النهضة" الأولى أنّه لا يستطيع تجاوز الغنّوشي أو الانقلاب عليه أو إقناع الناس بخطابٍ جديدٍ إلّا الغنّوشي نفسه. ولا يبدو أنّه يرى لنفسه دورا تاريخيّا باقيا إلّا ما هو منهمك فيه الآن، فلذلك كان قال في بعض خطاباته: المرء كبير في "النهضة"، فإذا خرج منها عاد إلى حجمه الطبيعيّ. وتردّد صدى هذا التقييم في تعليقات أتباع الحركة في مواقع التواصل على استقالة عبد الحميد الجلاصي.
تدلّ تجربة حركة النهضة في الحكم منذ عام 2011 على أنّ الحركة تَتحاتُّ من طرفيها. فقد استقال من قياديّيها رياض الشعيبي وحمّادي الجبالي وزبير الشهودي وزياد العذاري وعبدالحميد الجلاصي، ومن الشباب هشام العريض وزياد بومخلة. وصرّح قياديّون آخرون تصريحات صحافيّة عنيفة كما فعل محمّد بن سالم بعد الانتخابات التشريعيّة (2019). ونزل عدد ناخبيها من نحو مليون ونصف في انتخابات المجلس الوطنيّ التأسيسيّ (2011) إلى 434.530 في الانتخابات الرئاسيّة (2019)، و561.132 في التشريعيّة. وهذه علامات على تحوّل كبير يمنع وقوعه ويولّد أسبابه في الآن نفسه تثبّث الغنّوشي برئاسة الحركة.
A614EF74-C1F1-4E15-90EC-0B94242176DA
عبدالله جنوف

أستاذ بالجامعة التونسيّة. متخصّص في الإسلاميّات.