عادت التسريبات لتُرخي بظلالها على علاقة مكونات تحالف الثامن من آذار في لبنان، بقيادة "حزب الله"، بعد سنوات قليلة على اهتزاز التحالف مع تسريب وثائق "ويكيليكس" التي كشفت حجم التباين بين الحزب وحلفائه. وبطل التسريبات اليوم، هو وزير الخارجية، جبران باسيل، الذي انتقد رئيس مجلس النواب، نبيه بري، خلال لقاء انتخابي تم تسريبه بالصورة والصوت واصفاً إياه بـ"البلطجي". تسريبات خرجت بعد منتصف ليل الأحد ــ الإثنين، وشغلت البلد، وشكلت ما يشبه الزلزال السياسي وطرحت تساؤلات كبيرة حول، كيف يمكن أن ينتهي هذا الكباش التاريخي بين حزب رئيس الجمهورية، ميشال عون، و"حركة أمل" برئاسة نبيه بري؟.
قبل خمس سنوات، أدى نقد الأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني، حسن نصر الله، في برنامج سياسي فكاهي العام 2013، إلى سلسلة احتجاجات غاضبة في شوارع الضاحية الجنوبية لبيروت، رفضاً لـ"المس بالمقامات". وعلى نفس المستوى ينظر جمهور "حركة أمل" إلى رئيس مجلس النواب ورئيس الحركة، نبيه بري (1938). رجل كل العهود، الذي حجز رئاسة مجلس النواب منذ العام 1992 وحتى اليوم.
وكحال مُعظم السياسيين الذين قاتلوا خلال الحرب، يُنظر إليه من قبل أنصاره بوصفه بطلاً للحرب وبطلاً للسلم. ويعزو الكثير من أنصار "أمل" إليه رفع المظلومية عن الطائفة الشيعية وحماية حصتهم من الوظائف العامة ضمن النظام الطائفي اللبناني. ورغم التقلبات السياسية الكبيرة التي سمحت لمُختلف القوى السياسية من منع تحوّل الخلافات إلى حرب جديدة، وتقلّب المواقع في كثير من الأحيان، إلا أن العلاقة السلبية بين بري وعون، بقيت من الثوابت القليلة طوال عقود التحولات السياسية اللبنانية. وبعد أن حوّل أنصار عون الرجل إلى "أب الجميع" في لبنان، بعد انتخابه رئيساً في تسوية لم تحظ برضى بري بشكل كامل، انتقلت خلافة التركة السياسية لعون (بتحالفاتها وبخلافاتها) إلى صهره جبران باسيل، الذي تمت تزكيته لرئاسة "التيار الوطني الحر" خلفاً لعون، وحجز مقعد وزاري دائم له منذ العام 2008 وحتى اليوم، إذ يشغل الرجل منصب وزير الخارجية.
لا ينتمي باسيل إلى قائمة السياسيين اللبنانيين المُخضرمين الذين قادوا أحزابهم الطائفية في فترتي الحرب والسلم، بل إلى جيل الورثة السياسيين الأصغر سناً، وهو من مواليد العام 1970. لكن ذلك لم يمنعه من استئناف الصراع مع بري بحديّة كبيرة تحت عنوان "انتزاع حقوق المسيحيين وحمايتها". وخرجت التسريبات الأخيرة التي شتم فيها باسيل، بري، بوصفه "بلطجياً" و"سنكسر رأسه" لتكشف ما هو معلوم بحكم الضرورة عن العلاقة السيئة بين الطرفين. لكن سماع شتم شخصية قوية واعتبارية كنبيه بري، بالصوت والصورة، أحدثت خضة كبيرة في لبنان. بين يوم الأحد وأمس الإثنين تم تسريب فيديو وتسجيلين صوتيين لباسيل خلال لقاء انتخابي في مسقط رأسه، البترون شمال لبنان. لم يبخل السياسي الشاب في توصيف رئيس مجلس النواب بمُختلف النعوت من "انعدام الفهم" إلى "الوقاحة" و"البلطجة". وهو ما ردّ عليه مستشار بري ووزير المالية وعضو كتلة "التنمية والتحرير" (كتلة "حركة أمل" النيابية)، علي حسن خليل، وهو وريث سياسي أيضاً، ومن أبرز المُقرّبين إلى بري. وخاطب خليل رئيس الجمهورية بصفته عرّاب باسيل السياسي، ولم يقتصد في النعوت بدوره. وقال وزير المالية عن وزير الخارجية، إنه "قليل الأدب، ووضيع، وكلامه ليس تسريباً بل هو خطاب الانحطاط، ونعيق الطائفيين، وأقزام السياسة، الذين يتصورون أنهم بالتطاول على القادة يحجزون موقعاً بينهم".
خلاف بأفق مفتوح
نجح "حزب الله" في جمع الخصمين السياسيين التاريخيين ضمن تحالف الثامن من آذار حول دعم النظام السوري، وبذل مسؤولوه الكثير من الجهود للتخفيف من أثر الخلافات على المسيرة السياسية في لبنان. ولكن جميع هذه القوى توافقت على تعطيل مجلس النواب بعد انتهاء ولاية الرئيس، ميشال سليمان، في العام 2014، وحتى مضي معظم القوى السياسية بخيار انتخاب ميشال عون رئيساً، بعد أن منع التعطيل تأمين النصاب القانوني لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية. ولم تؤسس هذه اللحظة لأي تعاون سياسي مُستقبلي بين الطرفين، وبقي بري أقلّ المشاركين في قطار العهد الرئاسي الجديد حماسةً. لكن إدارة "حزب الله"، الراغب في تهدئة الأوضاع الداخلية، بقيت أقوى من الخلافات التقنية والسياسية بين حليفيه، الحريصين على متانة العلاقة معه. حتى أن مدى القرب من الحزب بات محل مزايدة بين المُتحدثين باسم "الوطني الحر" و"أمل"، مع تحويل مقدمات النشرات الإخبارية في المحطتين التلفزيونيتين التابعتين لهما إلى جبهات إعلامية. ويبقى واقع أن التركيبة الطائفية للنظام اللبناني ستُبقي "حركة أمل" أقرب إلى "حزب الله" من "التيار الوطني الحر".
ومع اقتراب موعد الانتخابات النيابية، المُقررة في الأسبوع الأول من مايو/أيار المُقبل، انفجرت العلاقة والتصريحات. وظهر باسيل في موقع لا يُمكن لـ"حزب الله" أن يُغطيّه، أو أن يقبل باستهداف شخصي لبري، حليفه الأول في البلد. والجدير ذكره أن باسيل لا يملك الرصيد السياسي الكبير الذي راكمه عون، خلال قيادة الجيش ورئاسة الحكومة العسكرية وقتال القوات السورية خلال الحرب الأهلية. كما ضاعفت خسارته المزدوجة في الانتخابات النيابية في العامين 2005 و2009 من الهوة بينه وبين المكونات السياسية والطائفية اللبنانية التي كرهت ما أحبّه فيه جمهوره الطائفي، أي الخطاب الشعبوي عالي السقف. كما تستبعد تبعات الاستقالة غير الطوعية التي أعلنها رئيس الحكومة، سعد الحريري، من الرياض في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إمكانية لعب الرجل لدور الوسيط، خصوصاً وأن كلاً من بري وعون سلّفا الحريري موقفاً سياسياً كبيراً من خلال رفض الاستقالة والحرص على عودته مع عائلته سالماً إلى بيروت، بعد الحديث عن احتجازه في الرياض. ومع استحكام الخلاف بعد التسريبات، اقتصر التصعيد على المواقف السياسية وتنفيس جمهور "حركة أمل" من احتقانهم على مواقع التواصل الاجتماعي فقط، رغم صدور بعض الدعوات لتنظيم وقفات احتجاجية في الضاحية الجنوبية لبيروت، وذلك بالتزامن مع وصول الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير إلى لبنان، في زيارة رسمية تستمر حتى الأربعاء.
بلغة المواعيد الدستورية سيكون الخلاف محكوماً باستحقاقين أساسيين، هما حفل توقيع عقود الاستكشاف والتنقيب عن النفط في المياه الإقليمية اللبنانية مع تحالف شركات النفط "توتال" الفرنسية، و"نوفاتك" الروسية، و"إيني" الإيطالية، في 9 فبراير/شباط المقبل، وموعد الانتخابات النيابية في مايو/أيار المقبل. ولكلا الاستحقاقين التزامات إقليمية ودولية قد تدفع الحاجة للوفاء بها إلى تأجيل الخلاف إلى ما بعد الانتخابات، لتكون العقدة الأولى بانتظار رئيس الوزراء المُكلّف تشكيل الحكومة بعد الانتخابات. وهو احتمال يُرجحه أيضاً ارتباط موعد الانتخابات بسلسلة المؤتمرات الدولية التي ستحمل دعماً اقتصادياً وعسكرياً للبنان، في محاولة من الدول الأوروبية والولايات المُتحدة للحفاظ على دور لبنان كحاضن مُستقّر للاجئين السوريين المُقيمين فيه. وفي حال قرر أي من الطرفين استكمال التصعيد، فإن مصير الانتخابات النيابية سيكون حتماً على المحكّ، وقد تتطور الأمور باتجاه تحريك الشارع، إن كان عبر تظاهرات حزبية مؤيدة، أو استخدام النقابات لتحريك الشارع، كما حدث في مراحل سابقة كان بري غاضباً فيها. وحتى انكشاف الصورة تستمر المناوشات بعد اعتذار بري عن حضور القداس الرسمي الذي عادة ما يحضره الرؤساء الثلاثة في عيد مار مارون في التاسع من فبراير/شباط المقبل، وتأجيل رئيس الجمهورية لجلسة المجلس الأعلى للدفاع التي كانت مُقررة أمس الإثنين.