بين مدينتين ..لماذا البؤسُ لطرابلس والبهجة لصُوْر؟

بين مدينتين ..لماذا البؤسُ لطرابلس والبهجة لصُوْر؟

18 اغسطس 2014
صوْر القديمة وشاطئها الساحر (بيروت أوبزيرفر)
+ الخط -
سَرَت شائعة في مدينة طرابلس، شمال لبنان، أنه قد مُنع عرض الصلبان في واجهات محلات الصاغة. شائعة ما كان لها أن تنتشر ويأخذ بها الناس لو أُطلقت في بيروت، فهي غير قابلة للتصديق هنا، أو في أي مكان آخر من لبنان، إلا في طرابلس.

وعلى الرغم من تكذيب الشائعة، إلا أن مزاج المدينة ليس بعيداً عن التطرف الديني، الآتي من مزيج البؤس والأمّية والبطالة، وذاكرة الحروب المحلية المديدة، المستيقظة الآن على وقع المآسي السورية ونكباتها. أتت الشائعة الكاذبة تتويجاً لوقائع حقيقية، وقرارات صدرت عن بلدية المدينة.

فبعد أن تم إحراق مكتبة "السائح"، وهي واحدة من أقدم مكتبات المدينة، ويملكها الأب الأرثوذكسي إبراهيم سروج، وبعد أن أصدر رئيس البلدية قراراً بمنع مظاهر الجهر بالإفطار في رمضان، ثم القرار الذي صدر منذ أسبوعين تقريباً، بمنع الإعلانات عن المشروبات الكحولية، عدا عن أن المدينة، كانت قد شهدت منذ الثمانينيات، موجات من هجرة المسيحيين، علاوة عن النخب المتعلمة أو المقتدرة، فتراجعت فيها الحياة الاجتماعية، وأوجه العيش المديني المختلط، وانحطّ النشاط الاقتصادي، وانعزلت نسبياً عن محيطها، مما فاقم من معادلة التغذية المتبادلة بين البؤس والتطرف، الأمية والتعصب، حروب الزواريب والفقر.

هكذا، تحولت طرابلس إلى مدينة للغضب والتوتر الطائفي، تسودها أفعال الكراهية والخوف، إذ هي سقطت بقبضة الجماعات السلفية المسلحة، المتوزعة شللاً وزمراً، كما هي تشكيلات فتيان الأحياء العشوائية وفتواتها، التي بات يتزعمها "شيوخ" مستجدون على طريقة "أمراء الجهاد".

وعلى الرغم من المقاومة التي تبديها نسبة وازنة من السكان بوجه نوازع تلك الجماعات وأفعالها، ومحاولات الدولة وقواها الأمنية والقضائية، وفعالية وجهائها التقليديين ونخبتها السياسية، إلا أن الجميع "يساير" تلك الجماعات ويرضخ لابتزازها الديني، على نحو قرارات رئيس البلدية، التي ترضي السلفيين الحالمين بـ"إمارة إسلامية" وفق نموذج قندهار.

وعلى طرف النقيض الجغرافي لطرابلس الشمالية، تقع مدينة صوْر في أقصى الجنوب اللبناني، حيث لا تزال تحتفظ بطابعها السكاني، الذي يجمع بين حارة المسيحين، وأحياء المسلمين السنّة، ونواحيها الشيعية الغالبة طابعاً وعدداً. وعلى النقيض من التجربة الطرابلسية، فإن صوْر طردت في الثمانينيات مليشيا "حزب الله" الناشئة آنذاك، وانحازت إلى "حركة أمل" التقليدية، الملبننة سياسة وثقافة أهلية (إذا صح التعبير)، ورفضت نوازع "حزب الله" في ذلك الحين، الذي كان يطمح لتأسيس "الجمهورية الإسلامية في لبنان" وفق النموذج الخمينيّ.

كما أن صوْر ظلت محتضنة للتيارات اليسارية والقومية، وبقيت وفية للبحر ولمينائها ولعلاقات الجوار، حريصة على أن تبقى سوقاً لمنطقتها، ومرفأ تجارياً مهماً، ومركز جذب سياحي، بما لديها من شاطئ خلاب، ورصيف بحري متوسطي قديم قدم وجود الفينيقيين، وعمران يحتفظ بطابع تقليدي أليف، وحياة مختلطة تجمع ميزة الريف الساحلي وبساتينه العامرة بالحمضيات، ومميزات المدينة الصغيرة المتوسطية وبحر صياديها وحكاياتهم.

رضخت طرابلس لظواهر التطرف والنبذ والكراهية والعنف فخسرت تعدديتها ورحابتها وعيشها المديني. وفي المقابل، تجنّبت صوْر مصير التمزق والتعصب والتهجير القسري والانغلاق. على هذا المنوال، لا أحد يقول لأصدقائه "هيا بنا نسهر في طرابلس"، لا أحد يقترح على عائلته "فلنمضي عطلة الأسبوع بطرابلس". لا زوار ولا سياح، لا رواد شاطئ ولا نزلاء فنادق ولا زبائن مطاعم وأسواق، بل أن سكان المنطقة أوالمحافظة يحاولون قضاء حاجياتهم وأعمالهم أو تزجية أوقاتهم في أماكن بديلة، كأن يذهبوا إلى بلدة البترون أو مدينة جبيل. المدينة التي هي "عاصمة الشمال" يتجنبها جوارها وغرباؤها، ويخرج منها أهلها إن أرادوا "تنفساً" أو تسلية وترفيهاً، أو حتى لحفلة عرس!

في هذه الأثناء، تفور بهجة الحياة في صوْر، الحرة من أي زجر أو فرض أو تزمت، ويأتيها الناس من كل المناطق اللبنانية، خصوصاً في الصيف، حين يزدهر سوق السمك العتيق فيها، وتمتلئ الشواطئ بروادها وتكتظ الفنادق والمطاعم والمقاهي والمقاصف السياحية، وتجد كل "جماعة" طقوسها وأنماط احتفالاتها، متجاورة مع الجماعة الأخرى المختلفة، بتسامح يذكرنا بـ"الطريقة اللبنانية" ويجددها. فالمحافظون والتقليديون والمتحررون والمتدينون والعلمانيون والمسلمون والمسيحيون، كل في مزاجه وأساليب عيشه أو احتفالياته، كل يجد كيفيات مسراته وبهجاته، يؤلفون حياة صاخبة وجذابة، ملوّنة وفائقة التنوع، تلهمنا بتقدير نعمة التآلف والمودة والانسجام والسلام.
بين كآبة طرابلس وبهجة صوْر، ليس صعباً أن نعرف وجهتنا.

دلالات

المساهمون