بدون عائلة

بدون عائلة

10 يناير 2018
+ الخط -
عرفت السيرك من كرتون الأطفال ريمي.. فهمت المعنى العام للسيرك من كونه عرضا مسرحيا أو فنيا حيا برفقة حيوانات مدربة، هذا المفهوم البسيط كان كافيا لأفهم فكرة السيرك..

في عام 1990 كان عمري أربع سنوات وكنت حينها أصغر إخوتي.. أول رحلة لي من مدينة لأخرى كانت قبل ذلك لكني لا أذكرها. بينما أتذكر رحلتي في هذا العام جيدا فقد كانت الأولى بالنسبة لطفلة ستكبر وتقتات على الذكريات.

في فرنسا في مدينة بالقرب من مدينة روان ولد الروائي الفرنسي هيكتور مالو عام1830. درس القانون لكنه كرس حياته للأدب وألف حوالي ثلاثة وسبعين كتابا، كان أولها رواية العشاق وآخرها كتاب قصة حياتي. أما أشهر أعماله فكانت رواية "بلا عائلة" أو "الفتى الشريد". لم يخطر ببال الكاتب أنها ستكون واحدة من أعظم ما كُتب في أدب الأطفال ولم يقصد ذلك.

كانت رحلتنا من صنعاء لتعز لم تتجاوز الساعة، فقد قرر والدي أن نسافر جوا! وصلنا إلى مطار تعز الدولي أول مطار في اليمن بعد رحلة وجيزة، شربنا خلالها عصير "يماني"، ولا أذكر حقيقة فيما إذا كنا قد أكلنا شيئا. لكني أتذكر العصير لأن المضيف الشاب اقترب من مقعدي وجلس قبالتي وفتح لي العلبة وقدمها لي مع قبلة على خدي فشكرته بخجل، في حين أني أردت توبيخه لأني وددت الاحتفاظ بعصير يماني خاصتي.


كعادة اليابانيين فقد حولوا رواية هيكتور مالو ذلك العمل القيم إلى أنيميشن عُرض لأول مرة عام 1977 باسم ريمي الفتى الشريد. لا تستغرب فريمي في الرواية هو صبي في الثامنة من عمره وقد تم عرض المسلسل بهذا الشكل حتى قررت مؤسسة نيبون أنيميشن إنتاجه من جديد عام 1996 وغيرت شخصية ريمي من فتى إلى فتاة وسمّوا الكرتون "دروب ريمي".

في تعز زرنا حديقة الحوبان وحديقة الحيوان، أتذكر جيدا كم بكيت وأنا أحاول الهروب من فكرة والدي بأن أتصور مع الأسد. كانت فكرة مرعبة بالرغم من كل التطمينات من أمي وأبي وأخي الذي دخل ليتصور دون أي خوف.

لا أتذكر كيف وافقت لكن الصورة التي التقطت لي مازالت تذكرني بذلك الخوف الذي بدا واضحا في عيني وفي تعابير وجهي وكان حزنا أكثر منه خوفا. كنت حزينة من خوفي من ترددي من شجاعة أخي وجبني، أما خوفي من الأسد فقد تلاشى عندما رأيت أخي يربت على رأسه وكأنهما صديقان.

عندما كتب هيكتور مالو روايته بلا عائلة أراد تسليط الضوء على المعاناة التي يعيشها الكثير من تشريد وفقر وجوع وربط المعاناة بالبحث عن العائلة. كم هي شديدة المصائب التي يتعرض لها المرء لكنها تزداد حدة وسوءا عندما يكون بعيدا عن أهله عن عائلته عن وطنه. وكنا نحن كأطفال من جيل واعد نجهل معنى هذه العذابات لكن قصة ريمي فتحت أعيننا للعذاب الذي يتعرض له آخرون في بلاد بعيدة. علمتنا أن هناك من يقاسي الخوف والشتات والجوع والتشريد وأن الحب وحده كفيل بإنهاء المعاناة مهما كانت قسوة الظروف.

في المساء تكرر خوفي لكن من حيوان آخر. ذهبنا في تلك الليلة لحضور أول وآخر عرض سيرك حضرته في اليمن في حياتي. قدمت العرض فتاة شقراء وشاب ونمر كان يقفز خلال الدوائر الملتهبة دون أن تلمسه النار. كنا في أول صف ويفصل بيننا وبين المسرح سور حديدي بارتفاع متر تقريبا وباب صغير موصد من الداخل. حاولت فتح الباب دون أن أدرك العواقب! انتبهت الشابة للباب وجاءت إلي وطلبت مني أن أشاركهم العرض، لكني تراجعت وخفت فضحكوا جميعهم علي.

ريمي الفتى الشريد الذي عاش سنواته الأولى مع أمه باربارين التي لم يعرف غيرها أما، حتى رماه زوجها الشرير خارجا، مما أجبر ريمي على مواجهة الحياة مع أصدقائه فيتالس والقرد والكلب كابي وباقي أعضاء الفرقة حتى ماتوا وتركوه يعاني آلام الفقد وحيدا مع كلبه حتى عثر في الأخير على أمه الحقيقية.

اليوم تبدو هذه الذكريات كوجع خفي في ذاكرتي. فتعز المدينة الجبلية التي تقع في منتصف اليمن ما بين شماله وجنوبه، أو كما وصفها أبي يوما بأن خير الأمور أوسطها عندما سألته عن تميز تعز دون سائر المدن اليمنية، لم تعد كما كانت. لقد غدت مدينة بلا مطار بلا مسرح بلا سيرك بلا حديقة . مدينة "بلا عائلة".

هذ العمل البديع لهيكتور مالو، يكمن سحره في عمق المعاني والأفكار الموجودة في النص والتي تجعل كل قارئ يستنبط صورا ومعاني مختلفة وفقا لمعاناته وعمره والزمن الذي يعيش فيه.

اليوم هناك الآلاف من ريمي، ملايين الأطفال الذين شردتهم الحروب وأجبرتهم على مواجهة الحياة بلا عائلة.

تعز مدينة صغيرة كرواية هيكتور، لم تختر موقعها ولا معاناتها لكنها اختارت المقاومة. تعز العز كما يعرفها اليمني مدينة العلم والفن والأدب كانت وستظل رمزا للكثير من القيم. رمز الجمال في زمن السلم ورمز النضال في زمن الحرب وخير المدن في كل الأزمنة.
50228739-0847-4184-9784-6EA5B34CBE16
سبأ حمزة

أم لثلاثة أشقياء ونجمة.. الكتابة ابنتي الوحيدة بين ثلاثة صبيان، يحبونها ويغارون منها.. كاتبة وأكاديمية من اليمن. درست الأدب الإنجليزي بجامعة العلوم والتكنلوجيا، وأدرس حاليا في جامعة أوترخت.

مدونات أخرى