انتصرت اليابان بأخلاقها

06 يوليو 2018

ياباني ينظف المدرجات بعد خسارة منتخب بلاده (2/7/2018/فرانس برس)

+ الخط -
لم يغضب منتخب اليابان بعد خسارةٍ لا يستحقها أمام منتخب بلجيكا، قضت على أحلامه بالوصول إلى دور الثمانية لكأس العالم. تقبل فريق الساموراي الهزيمة بصدر رحب، وعادوا إلى غرف تبديل الملابس المخصصة لهم، وضبوها ونظفوها تماماً، وتركوا رسالة شكر لروسيا، تعبيراً عن امتنانهم للدولة المضيفة. وعبّر عن السلوك نفسه جمهور اليابان الحاضر في الملعب. لم ينتقم الجمهور المهزوم من مقاعد الملعب ومرافقه، ولم يعتدوا على جمهور بلجيكا المُنتشي بانتصار فريقه. لم تنل مرارة الهزيمة من حلاوة روح جمهور اليابان وأخلاقه الراسخة، إذ انصرف المشجعون اليابانيون إلى تنظيف مدرجات الملعب من القمامة، يغسلونها بدموع ذرفوها على حظ عاثر، باغتهم بهدف قاتل في الوقت بدل الضائع. وعلى الرغم من الهزيمة القاسية، لم يغضب الجمهور الياباني من لاعبي فريقهم، لم يقطعوا طريق حافلتهم، ولم يقذفوهم بالزجاجات، ففي الثقافة اليابانية لا تولد الهزيمة يتيمةً، كما لا يولد النصر من ألف أب، الكل يتحمّل مسؤولية الهزيمة، كما يتشاطر الكل ثمرات النصر.
ما قام به لاعبو منتخب اليابان وجمهورهم، بعد هزيمةٍ مؤلمةٍ، لم يأت تنفيذاً لتعليمات صارمة صادرة عن وزارة سيادية أو جهات أمنية، أو تنفيذاً لبرنامج حملة شركة علاقات عامة، رأت في ذلك فرصةً لتلميع صورة البلد أو غسيل سمعتها، بل هو سلوك تلقائي أصيل، يترجم حقيقة روح المجتمع والفرد اليابانيين، حيث تسمو قيم الحياة والعمل والمثابرة والصبر على عثرات الزمان، سواء كانت خسارة في مباراة كرة قدم أو هزيمة ساحقة في حرب. هذه القيم العليا التي يتشربها الياباني، ويمارسها من المهد إلى اللحد هي المحرّك الأساس لمجتمع عاد إلى الحياة بقوة، بعد استسلامٍ مُهين لحق به في الحرب العالمية الثانية.
ليس سلوك جمهور الساموراي ولاعبوه اجتهاداً عابراً أو استعراضياً، بل هو أس ثقافةٍ تتفوّق فيها قيم العمل الجماعي على العمل الفردي، حيث "يقع الظفر الذي يخرج من الإصبع على الأرض"، كما يقول المثل الشعبي الياباني. تنظيف غرفة تبديل الملابس ومدرجات ملعب روستوف هو نتاج تنشئة وتربية تُغرس في الأطفال في كل المدارس، حيث يقوم التلاميذ بتنظيف غرفهم الصفية ومدارسهم من دون الاعتماد على عمال نظافة، والهدف تعليمهم أهمية العمل وروح الجماعة، وتحمل المسؤولية، من دون الاتكال على آخرين.
كان لكاتب هذه السطور فرصة زيارة اليابان مرتين، والتعرف عن قرب على ثقافة "إيكيغاي"، التي تلخص مفهوم السعادة في الحياة. تتحقق، في المعتقد الياباني، سعادة الفرد في حياةٍ ذات قيمة ومغزى. ويتكون مفهوم "إيكيغاي" من كلمتين، إيكي (الحياة) وغاي (قيمة الشيء). وسر "إيكيغاي" هو ما دفع لاعبي اليابان إلى القتال حتى الرمق الأخير بقوة الساموراي، في معركةٍ كرويةٍ لم تغب عنها ثقافة "التسامح والغفران" التي باتت سمة المجتمع والدولة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما اختارت اليابان حجز مكانة لها في مقدمة الأمم بالقوة الناعمة، بديلاً عن القوة الخشنة، وبفضيلة "التسامح والغفران" بديلاً عن غريزة الانتقام.
هُزم المنتخب الياباني، وخرج من كأس العالم، بهدف سُجل في مرماه في الثواني الأخيرة من الوقت الإضافي، وفي هذا درسٌ قاسٍ لفريق يمثل بلداً لم يعتد هدر الوقت، أو إضاعة الفرص. ولا ريب أن اليابان التي أحالت هزيمتها في الحرب العالمية الثانية إلى معجزة اقتصادية وتكنولوجية لن تمرّر الهزيمة الكروية من دون الاستفادة منها في بناء فريق أكثر تألقاً في كأس العالم 2022.
صحيح أن رحلة اليابان في كأس العالم توقفت باكراً، لكن الثقافة اليابانية الأصيلة انتصرت، على الرغم من الخسارة المُحزنة. وبسلوكه اللافت، قدم منتخب الساموراي وأنصاره للعالم درساً جديداً في أخلاقيات كرة القدم، لا يشبهه إلا الذي قدمته اليابان للعالم، وهي تخرج من تحت رماد القصف الأميركي أقوى، وأكثر إنسانية.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.