الهاربون من موت الباغوز يروون لـ"العربي الجديد" معاناة المحاصرين

15 فبراير 2019
أوضاع صعبة للخارجين من القرية (العربي الجديد)
+ الخط -
من بعيد وعلى طريق متعرّج خلفه بيوت لقرية الباغوز الفوقاني، في ريف دير الزور شرقي سورية، بدأت تظهر خيالات أشخاص قادمين باتجاه جبل الباغوز، فيما كانت أعمدة الدخان تتصاعد من جرّاء سقوط قذائف الهاون من الأراضي العراقية. بعد قليل، بدأ النازحون من الباغوز، يصلون عبر الممر الآمن المخصص لخروج المدنيين من القرية التي تشهد آخر المعارك مع تنظيم "داعش" في سورية.

علامات الإنهاك والتعب بادية على وجوه الهاربين. أطفال عطشى، يبكون من المشهد ومن رؤية وجوه جديدة. آخرون كانت واضحة عليهم إصابتهم بمرض اللشمانيا. أصوات بكائهم تعلو من التعب والجوع والعطش، فيما طفل آخر أرهقته حقيبة كبيرة يضعها على ظهره تكاد تكون أكبر منه حجماً. من بين الخارجين أيضاً من القرية، رجل مسن مريض بالسكر، يتكئ على عصا بعدما أتعبه السير. امرأة أوكرانية تجمع أطفالها حولها ليأكلوا خبزاً بعد شربهم الماء الذي وُزع عليهم فور وصولهم، وبدت على يديها آثار سواد من جرّاء الظروف التي عاشتها في الأيام الأخيرة قبل الخروج من الباغوز.

خلال الأيام الأخيرة، خرج نحو 2500 شخص أغلبهم من النساء والأطفال من الباغوز. لكن رحلة معاناة الهاربين من الموت لا تتوقف بمجرد الخروج من القرية، إذ يتم نقلهم إلى تجمّع توجَد فيه قوات التحالف الدولي مع "قوات سورية الديمقراطية"، حيث يتم تسجيل الأسماء وعزل الرجال عن النساء والأجانب ومن هو مرتبط بتنظيم "داعش". والذين خرجوا من القرية يبيتون في هذا المكان حتى اليوم التالي، ليتم نقلهم إلى مخيم الهول في استراحة مؤقتة من تعب الرحلة والمعارك التي فروا منها وآثارها البادية عليهم.

بدا على المدنيين الذين خرجوا والتقتهم "العربي الجديد" في مكان التجمّع، عدم ارتياحهم للصحافيين، معظمهم لا يرغب في التحدث إلى الصحافة؛ حتى الأطفال، إذ إن القليل منهم يرد على الأسئلة، أو يجيب بكلمات سطحية. امرأة سورية بدا عليها المرض جلست في شاحنة قبل نقلها إلى المخيم، ردت بعصبية على صحافي سألها عن الوضع في القرية، قائلة: "لماذا تصوروننا وماذا نستفيد من ذلك؟ إنكم تضحكون علينا"، مضيفة: "لتشحذوا علينا من الأمم المتحدة"، قبل أن تصرخ أخرى "تصورونا ليش؟ نحن عنا كرامة".


وعلى مقدمة شاحنة أخرى كان الفتى محمد، وهو من الرقة، يجلس مع من خرج من أهله من القرية. يقول إن القصف كان حولهم، والجثث تُدفن بشكل سريع من دون كفن وبعضها ما زالت في مكانها. وعن الوضع المعيشي، يقول: "كنا نأكل خبزاً من النخالة، يخبزونها في الفترة الأخيرة، كما نقوم بطبخ سكر كيميائي نغليه مع الشاي".

على مقلب آخر، امرأة عراقية مسنّة تعرج لإصابة قديمة في إحدى قدميها، تقول إن أولادها وزوجها ماتوا في القصف وأصبحت زوجات أولادها وأطفالهم برقبتها وتبحث عن الأمن والأمان. على الرغم من أنها من مدينة القائم القريبة من الحدود السورية-العراقية، لكنها تتخوّف من الذهاب إليها من جرّاء الظروف الأخيرة التي عاشتها، وما حصل في العراق، وتفضلّ الذهاب إلى المخيم والبقاء في سورية.

أم عثمان، وهي عراقية أيضاً من مدينة صلاح الدين، تجيب مستغربة سؤال صحافية عن عيون طفلتها الجميلة، فتقول: "هذه خلقة الله". كانت الصحافية، بسؤالها هذا، مشككة في الطفلة أو زوج أم عثمان بأن يكون أجنبياً. تتحدث أم عثمان لـ"العربي الجديد"، وحولها أطفالها، عن الوضع في قرية الباغوز، قائلة: "ما في سيارات للخروج... مشينا كثيراً من العصر ووصلنا بعد المغرب، هناك عائلات كثيرة تتمنى أن تخرج على الرغم من التخوّف من الخروج، ولكن يوجد أشخاص مبتورو الأطراف ومرضى... مثلاً الذين عندهم مرض لا يسمح لهم بالحركة، فضلاً عن مقعدين يحتاجون إلى من يحملهم"، ولصعوبة نقلهم بقيت عائلاتهم، وترفض الخروج من دونهم.

هي الحرب التي جمعت هؤلاء النسوة في قرية الباغوز، وتوجّهن إليها بعد مقتل أزواجهن وأهلهن سواء في معركة الرقة أو المعارك الأخيرة في ريف دير الزور، ونسبة كبيرة منهن من العراق وسورية وكل دول العالم. وبسبب كثرتهن بعد مقتل أزواجهن، بدا ذلك دافعاً للمقاتلين للبقاء في مناطقهم وعدم الانسحاب، ولكن على ما يبدو فإن "داعش" غيّر رأيه في الأيام الأخيرة، خصوصاً في معركة الباغوز التي يحاول فيها إخراج العائلات، ليبقى المقاتلون الذين اختاروا القتال حتى الرمق الأخير.