النجمة الإعلامية والحجاب

النجمة الإعلامية والحجاب

17 يناير 2019

المنقبات.. وإعلامية لبنانية تقرأ

+ الخط -
الصورة الأولى، على اليسار: جمْهرة متراصّة من المنقّبات يسرِن شمالاً، لا نرى غير ظهورهن. من نهاية هذه الجْمهرة، امرأة تشقّ طريقها بالاتجاه المعاكس لها. غير منقّبة، ولا محجّبة، مع أنها تلبس عباءة سوداء فضفاضة، زيّ المنقّبات الماشيات نفسه؛ أي أنها خارجة عنهن. شعرها مربوطٌ إلى الخلف من دون عناية خاصة، تحمل مجلةً، تقرأ ما فيها، وتمشي.. وفي خلفية الصورة عمارات تقليدية وأشجار نخيل، توشي بأننا في رقعةٍ جغرافيةٍ شرقية، على الأقل. والمغزى مفهوم: إن القراءة تمكّن المرأة من الخروج من القطيع المنقّب والمحجَّب. ولا صفة تناسب الجمهرة التي تتمرّد عليها صاحبة الصورة، غير الـ"قطيع".
الصورة الثانية: لإعلامية لبنانية، توصف بأنها حقّقت "نجومية عالية"، قياساً إلى الإعلاميات الباقيات. وهذه الإعلامية نشرت على "تويتر" الصورة الأولى، واصفة إياها "الرائعة". ثم تماهت مع صاحبتها إلى حدّ أنها نشرت إلى جانبها صورةً لها، هي الثانية المفترض أنها تزايد الأولى، وتقول لها "أنا أيضاً، خارجة عن القطيع!". ماذا في هذه الصورة الثانية، المخاطِبة للأولى؟ "نجمتنا" بمفردها، لا أحد يشاركها الصورة، شخصية مستقلّة، سافرة طبعاً، بشعرٍ خارج لتوه من عند الحلاق؛ جالسة على كنَبةٍ وثيرةٍ طرية، لابسة بنطلونا وكنزة "مُخَصْوَرَين"؛ تسند ظهرها إلى طرف الكنَبة وبين يديها الاثنتين كتابٌ تربو صفحاته على الألف، وذو غلافٍ سميك. وعيناها لا تنظران إلى الكتاب، إنما شاخصةٌ على الكاميرا، 
تستعجلها الإمساك باللحظة، أو اللقطة، وعلى وجهها العبارة إيّاها: "ألستُ جميلة؟". وصاحبة الصورة تود أن تقول، بنشرها لها، فوق أنها فرد مستقل، لا قطيع، ولا محجبة.. أنها تقرأ، هي أيضاً، مثل صاحبة الصورة الأولى. من دون شقاء المشي وسط الغُبار، أو حتى النظر إلى الكتاب، وفي دفء صالون مرتَّب نظيف.. هي تحرّرت من زمان! وتقرأ من زمان!
والشعور الأول الذي ينتابكَ أن صاحبة الصورة خانت نفسها بنفسها، عندما أرادت أن تقول إنها تقرأ، إنها غير "عادية"، نجمة "مثقفة"، فوق أنها "جميلة"؛ سوبر ستار يعني.. والحال أن إعلاميتنا النجمة، في الواقع، لا تقرأ، وإليكَ الشواهد: الكتاب الذي اختارته لا يمكن قراءته بهذه الجلسة المسترخية. كان عليها أن تختار مجلةً خفيفة الحمل، إذا أرادت أن تقنعنا بأنها تقرأ، على الأقل. ولكن هي فكّرت ربما بأن الكتاب كلما زادت صفحاته ارتفعت أهمية حامله أمام الكاميرا بنظر المعجبين، وشُهر سلاحا "أكاديميا" ضد غير المعجبين، وهُم كثر، نظراً لمواقف النجمة الشاحذة للنظر بوتيرةٍ شبه يومية. ثانياً، أنها لا تستطيع أن تقرأ، لأنها لا تملك الوقت المطلوب للقراءة: بين الحلاق والماكيير واختيار الملابس المتجدّدة دائماً، وبين متابعة ردود أفعال المعجبين وغير المعجبين، والردّ عليهم، واستضافتها في برامج تافهةٍ وافتعالها الضحاوية في قضية "التنمّر"، الشائعة، مثل شيوع التحرّش الجنسي، ومشاركتها في حفلات تكريم النجوم الآخرين، وانتخابات ملكة جمال لبنان، ثم بعد ذلك قراءتها نشرات الأخبار، وتلاوتها الأسئلة على ضيوف برامج سياسية. من دون التكلم عن الحياة العائلية (ابنتان) التي تعرّضها أيضا للنظر؛ من دون التكلم عن الوقت الكواليسي الذي يفيض ربما عن وقت "العرض - المشهد".. من أين لهذه النجمة الوقت لتقرأ؟ ليس كتابا من ألف صفحة، إنما كتيّبا من الشعر؟ أو مجلة غير "فنية"؟
انعدام القراءة، ثالثاً، يتجسّد أيضاً في النظرة التي تحملها "نجمتنا" تجاه المحجّبات والمنقبات: إنهن "قطيع". لا تستطيع، بنتيجته، أن تميّز، داخل هذه "القطيع"، حالات فرديةً أو نصف جماعية، أو جماعية لنساءٍ يختلف مضمون حجابهن، وتتفاوت حيثياته، بين كل حالةٍ وأخرى: لو كانت تقرأ، لا كتباً وحسب، إنما في المجتمع من حولها، لكانت لاحظت أن الحجاب ابن العصر؛ وأن من بين المرتديات له، ثمّة مؤمنات به، مستقويات به، مندمجاتٌ ببيئتهن، لا يردن الإنسلاخ عنها، كما أن ثمة من لسن مقتنعاتٍ به، يلبسنه إما من أجل وسطهن، أو عريس، أو تقدير؛ بل أحيانا تمرّدا على بيئةً لا تحبّذه، أو لا تؤمن بفحواه. وفي الغرب، تتحجّب النساء لأسبابٍ هويتيةٍ صرفة، وغالبا ضد قطيع العنصريين؛ هذا من دون التكلم عن الإسلاميات النسويات، اللواتي ينشطن منذ ما يقارب العقدين، واللواتي تتجاوز طروحاتهن ثنائية تقليدي/ حديث، التي يبدو أن نجمتنا تعتنقها.
ولكن بما أن أولئك المحجّبات هن بنات عصرهن أيضاً، فلا بد للإعلامية النجمة أن تلاحظ أن 
المحجّبات لا ينقصن عن السافرات طموحاً واجتهاداً وإبداعاً، ولا قوة بشخصياتهن. وهذا ليس بفضل شيءٍ سوى العصر الذي أعلى من شأن النساء، ومن هيمنة الإسلام الاجتماعي في آن معاً.
(اللغة العربية عليها إيجاد تسميةٍ خاصة لفعل بات منتشراً، بين النجوم وبين غيرهم من الأفراد التائقين إلى شيء من التميز: وهو فعل ادّعاء القراءة. والأرجح انه متزايدٌ في أيامنا، تلبيةً لمفارقة غريبة، تجمع بين هجرة القراءة، والمكوث في مجدها).
لكن الوجه الثالث من الصورة، ذاك الذي يختبئ خلف الصورتَين، هو القطيع الآخر؛ النساء الذاهبات زرافاتٍ ووحدانا نحو الموضة. موضة أن تبقي صبيةً، نحيفةً، فتحقني وجهكِ وتنفخي خدودكِ، وترفعي حاجبيْكِ، تشدّي جسمك، تطوّلي شعركِ الذي لا يصفّفه غير الحلاق، وأن تضعي على وجهكِ كل ما يمكن أن يوضع من مساحيق، وترتفعي بالكعب الأعلى الذي سيصيب ظهرك بعد سنوات، ثم تلبسي ما تصمّمه بيوت الأزياء العالمية، المحزّق والمغري دائماً، الذي لا ترتاحين إليه تماماً، ولكن.. هذا نموذجٌ من صاحبات النجومية، كما من المرأة متوسطة الحال، نموذج قطيعي أيضاً، يعتقد نفسه "حديثا"، أو "تراندي"، ويتعالى على اللواتي لا يتْبعنه. ومن يقرأ في الكتب وفي الحياة يعلم بتفاصيل المعاناة والإحباطات اليومية التي تبذلها هذه الفئة من النساء، من أجل الذوق الواحد، الوجه الواحد، الشعر الواحد، الوزن الواحد.. التصنّع الواحد.