المحكمة الجنائية بين البشير وكينياتا

المحكمة الجنائية بين البشير وكينياتا

14 أكتوبر 2014

على خلاف البشير، استجاب كينياتا لاستدعاء المحكمة الجنائية

+ الخط -

أثارت خطوة الرئيس الكيني، أوهورو كينياتا، قبول استدعائه ومثوله أمام المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، لغطاً لم يهدأ بعد في القارة الأفريقية، كما أنها أثارت ردة فعل في السودان، ومن قادة أفارقة، حول مدى الالتزام بالموقف الذي اتخذه الرؤساء الأفارقة، والقاضي برفض استدعائهم، وعدم مثول أي منهم أمام المحكمة. لكن، بالمثل، يمكن استنباط مواقف إيجابية عديدة من الخطوة المفاجئة والشجاعة التي أقدم عليها الرئيس الكيني. فعلى خلاف الرئيس السوداني، عمر البشير، تعامل أوهورو كينياتا بواقعية وعقلانية كثيرتين مع المحكمة الجنائية. والمؤكد أن هناك خلاف بين القضيتين، ولكن، هناك رابط أساسي، هو القانون واحترامه إزاء جرائم ارتكبت ضد الإنسانية، فقد ذهب ضحية للعنف من أبناء إقليم دارفور، استناداً إلى العدد (القديم) الذي أعلنه الرئيس البشير، عشرة آلاف إنسان فقط. وفي الحالة الكينية ونتيجة الصدام على خلفية عرقية وقبلية، تجاوز عدد الضحايا الألف.  لم يكن أهورو كينياتا رئيساً فيما جرى عام 2007، بل كان من مؤيدي المرشح، مواي كيباكي، ضد خصمه آنذاك، رايلا أودينقا.

ما الذي جعل تعامل كينيا ورئيسها، أوهورو كينياتا، هكذا هادئاً طبيعياً، من دون الدخول في ملاسنات قانونية. وما الذي جعل ردة فعل السودان تهويلاً وصراخاً وكلاماً يخلو من اللياقة والدبلوماسية، كما كانت ردة فعل عمر البشير: المحكمة الجنائية تحت جزمتي.

وبعيداً عن المقارنات، فقد حزم الرئيس كينياتا أمره، وأظهر شجاعة واحتراماً لحكم القانون، ليسجل سابقة، هي الأولى من نوعها، كأول رئيس دولة في عمله، يمثل أمام الجنائية الدولية. وأبدى احتراماً لائقاً لشعبه، وللمؤسسات في بلده، ولدستور بلده، من خلال تسليمه الحكم لنائبه، وليم روتو، وفقاً لمنطوق الدستور الكيني، ليخلفه في أثناء فترة غيابه. سافر كينياتا كشخص عادي، تلبية للاستدعاء والمثول أمام المحكمة الدولية. بدا رجل دولة، يحترم المؤسسات، ويحترم موقعه رئيساً، ويعرف أن الرئاسة مسؤولية، وقيادة لبلد له موقعه الدولي الذي يحتم عليه احترام الأسرة الدولية، كأحد الفاعلين فيها. يعرف أن كينيا مقر إقليمي لمؤسسات دولية مهمة، وأخرى تابعة للأمم المتحدة، ما يحتم عليه احترام القانون والمؤسسات الدولية. إذن، جاءت خطوة أهورو كينياتا منسجمة مع مؤسسية بلاده، واحترامها القانون، واعتباره فوق الدول والأشخاص.

وكانت خطوات كينيا ورئيسها تنم عن احترام الدولة ومؤسساتها، فلم نسمع لغة متعالية مستبدة، لا تعير اهتماماً للبشر ولا للوطن. ولم يخرج بلغة متعالية ليقول إني الرئيس المنتخب من الشعب، متجاهلاً المؤسسية في الدولة. استدعى البرلمان، ليمثل أمام ممثلي الشعب، لتوضيح أسبابه وقناعاته والخيارات أمامه، لتجنيب بلاده مغبة صدام لا مفر منه مع المجتمع الدولي. ولم تلجأ كينيا إلى لغة القانون، والنظر من ثقب المؤامرة الدولية عليها، وعلى رئيسها، أو من استهداف استعماري للقارة وقادتها. رسم الرئيس، بشجاعة، مشاعره الشخصية "ضميري مرتاح، وكان مرتاحاً، وسوف يكون دائماً مرتاحاً، لأنني بريء من كل الاتهامات الموجهة ضدي، واعترف المدعي أن الأدلة المتوفرة غير كافية لإثبات المسؤولية الجنائية".   

إنها حالة لرئيس تعامل بشكل حضاري راق، وبثقة جديرة بالاحترام، وما يدعو إلى الدهشة موقف جاره رئيس يوغندا، يوري موسفيني، وهو من الرؤساء الأفارقة المعمرين في الحكم، شأن رئيسي زيمبابوي والسودان، روبرت موغابي وعمر البشير، اختار أن يهاجم المحكمة الجنائية لاستدعائها الرئيس كينياتا، فقد رأى في ذلك "احتقاراً لقرار الاتحاد الأفريقي، وأن المحكمة فضحت نفسها، على أنها أداة تستخدم لدفع أجندة ما بعد استعمارية، وتستهدف القادة الأفارقة". ولم يكتف بهذا، وإنما طالب الدول الأفريقية في القمة الأفريقية المقبلة بأن تراجع عضويتها من اتفاقية تأسيس المحكمة وميثاق روما، واعتبر موسيفيني المحكمة معولاً لبسط الهيمنة الاستعمارية من جديد على أفريقيا.

قناعتي أن موقف الرئيس الكيني يعبر عن روح القيادات الشابة التي تضخ دماً جديداً في أفريقيا. ويدحض رؤى ساهمت ديكتاتوريات تاريخية أفريقية في تقديمها للرأي العام الأفريقي والعالمي بأن المحكمة الجنائية الدولية تستهدف أفريقيا وقادتها، وأن فتح الباب أمام الاستدعاءات سوف يجعل هؤلاء القادة موضع استهداف لا يتوقف. وبالقدر نفسه، قد تواجه محاكمة رئيس، وهو في الحكم، عقبات من حيث قدرة الحكومات على التلاعب بالأدلة. ولكن، في قيام كينياتا بخطوته غير المسبوقة إشارة إلى القادة الأفارقة بإعادة النظر في تلك المفاهيم الخاطئة التي تضع الأشخاص فوق القانون. فالتغاضي عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية آفة أفريقية بامتياز، ورسالة الرئيس الكيني من شأنها وضع حد لهذه الظاهرة الأفريقية. تُرى، ماذا كان يخسر السودان لو قدّم البشير المسؤولين عن الجرائم في دارفور أمام المحاكم السودانية؟ ألم يكن من السهل على الحكومة السودانية التي كانت كريمة جداً مع المدعي العام للمحكمة الدولية، مورينيو أوكامبو، وسلمته كل ما يحتاجه من وثائق ومعلومات أن تستند إليها في وقف جرائم الحرب في دارفور، وبأيدٍ سودانية؟

في لقاءاتي العديدة معه، كان أوكامبو يؤكد لي بشأن ما قدمته له الحكومة السودانية من وثائق ومعلومات، وتقارير تسلمها، أن 80% من الوثائق تستند عليها الدعوى ضد السودان والرئيس البشير. ويضيف إن مجمل التقارير من اللجان السودانية "الممتازة"، إضافة إلى وجود قانونيين سودانيين لهم القدرة على تشكيل محكمة محلية مختصة، كان كفيلاً بمعالجة داخلية للقضية. هنا معضلة أفريقيا، وهنا المأساة التي تجعل للمحكمة الجنائية الدولية أهمية مقدمة لأجل الشعوب ورد المظالم في دول تقدم الطغاة والأشخاص على القانون. وهنا، أيضاً، كانت شجاعة الرئيس أوهورو كينياتا الذي قدم رؤيةً، يجدر بقادة أفريقيا أن يعتبروا بها، حينما تلتئم قمتهم المقبلة.

دلالات

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.