الفلوجة التي ظلمت مرتين

22 يوليو 2015
+ الخط -
ظلمت الفلوجة مرتين، مرة حين زرع بعضهم على أرضها تنظيم الدولة الإسلامية، ثم راح يصرخ ويولول أن أهل المدينة كلهم "داعشيون". وفي حينه، وعد نوري المالكي، الغائب الحاضر، بـ"تصفية الحساب" معهم، باعتبارهم من "أتباع يزيد". وتوعد هادي العامري، المسؤول عن مليشيات الحشد الشعبي بـ"شد الخناق على المدينة، لأن ما بقي من أهلها فيها هم من البعثيين والدواعش"، وهدد نائبه، أبو مهدي المهندس، باقتحامها، لأنها تمثل "رأس الأفعى". ودعك من تقارير الإعلام الطائفي التي تصف الفلوجة بأنها مدينة سنية بينها وبين بغداد 60 كيلومترا، ولأنها في تشكيلتها الاجتماعية هذه، وفي موقعها "الاستراتيجي" ذاك، تشكل خطرا على العاصمة، فقد أصبح الاقتصاص منها، واجتثاث أهلها، واجباً مقدسا. هنا يستخدم الإعلام "الطائفة" سياسياً، لإبقاء الناس في دائرة الخداع والوهم، وكي يستثمر الخوف لإخضاعهم تحت غطاء ما يزعمونه مقدساً. 
مرة أخرى، ظلمت الفلوجة، حين حاصرتها جحافل المليشيات بهدف دخولها، لتخليصها من قبضة "داعش"، من دون تهيئة مستلزمات تحريرها، ومن دون الاعتماد على أهلها. وكان أن انهالت البراميل المتفجرة والصواريخ القاتلة تقذف بحممها، فتفتك بسكانها، وتدمر بيوتهم، لكن معركتها طالت على غير ما وعد قادة المليشيات والعسكر، وعرف أن الأمور تسير على غير ما اشتهوا وتمنوا، وخشي الفلوجيون من معاناة آتية أشد وأقسى، قد تطاول الآلاف من مواطنيهم الذين سيجدون أنفسهم بين خيارين، أحلاهما مر: "داعش" أو المليشيات السوداء.
هاتفني أحد الفلوجيين الذين هجروا المدينة، وقد استطاع النجاة، قال لي "داعش تضع السكان رهائن عندها، لا تسمح لهم بالسفر، وقد تستخدمهم دروعاً بشرية، وتتهم بعضهم بالتجسس لحساب حكومة بغداد، وتلقي بهم في السجن، أو تفتك بهم، وإذا ما فكر بعضهم بالهروب، فإنهم يترددون أكثر من مرة، وفي أذهانهم صور النازحين الذين سبقوهم، والذين عوقبوا بمنع دخولهم إلى عاصمة البلاد، فعاد منهم من عاد مستسلماً لقدر الله وقضائه، فيما بقي الآلاف على قارعة الطريق، ينتظرون من الدول والمنظمات الصديقة أن تعينهم بما يقيم أودهم، وقد يلاقي بعضهم مصيراً أسوأ، إذ قد تتلقفه المليشيات السوداء، فتتهمه بالعمل مع "داعش"، وحينذاك لن يجد من يغفر له، وهكذا تتحمل الفلوجة قسوة الأعداء وظلم الأقربين معاً، ولا تعرف إلى أي الجانبين تميل.
ما قاله الفلوجي جرس إنذار مبكر، يفصح عما يجري اليوم، وما قد يجري غداً، لكن السؤال المعلق على الشفاه: ما هو ذنب المدينة الوادعة حتى تتحمل كل هذا؟

شخصيا، وقد عشت فيها ردحاً من الزمان، لا أعرف لها ذنباً سوى أنها استعصت على الأغراب قروناً، فقد غزاها الفرس مرات، والرومان مرات، ودمرت معالمها، واحترقت منازلها وأسواقها مرات ومرات، لكنها كانت تعود لتبني وتعمر وتعوض عما فاتها، نزح منها الآلاف في تلك الغزوات والحروب، ولجأ إليها الآلاف في أزمنة السلم والمحبة، تعاقبت عليها دول وحضارات وجيوش، فما وهنت عزيمتها وما قلَّ عطاء أبنائها، اكتسبت أسماءً عديدة، لكنها حافظت على جذورها وأصالتها. قال عنها كورش الكبير ملك فارس إنها "الحصن البعيد" الذي استعصى عليه، وأطلق عليها الرومان تسمية "المدينة الوسطى"، وقرن شابور اسمه بها، بعدما عدها ثمرة انتصاره، واختار أرضها كسرى أبرويز ليشيد معبدا مجوسياً، ظل شاخصا إلى حين، ووضع لها باحثون لقب "مدينة المساجد"، وقد بنى أهلها أكثر من 132 مسجداً. ودخلتها الحداثة مبكرة، إذ شهدت في خمسينيات القرن الماضي إنشاء دار للسينما، ونشاطات مسرحية وثقافية، ومكتبات، ومدارس، واشتغل شبابها في السياسة، أيام كان الشغل في السياسة نضالاً يومياً من أجل الوطن والمواطن. وفي تاريخها القريب، ظلت قلعة للصمود في مواجهة رياح الشر. في أربعينيات القرن، فشل في اقتحامها الإنجليز، وبعد الاحتلال قاومت الأميركيين، وردتهم على أعقابهم، تفاعلت على أرضها أقوام، وتداخلت فيها ظروف، اتسع صدرها ليحتضن الجميع من كل طائفة ومذهب وعرق، بينهم سنة وشيعة، عرب وأكراد، مسيحيون ويهود وصابئة، وآخرون لهم مذاهب شتى، جمعت بينهم في ألفة وود، ومنحتهم الأمن والأمان، تلك كانت أيام خير، ذهبت مع أهلها.
وأعرف أن الفلوجة كان يمكن أن تؤسس لما هو أبعد، وأكثر تقدماً، لكن الأيام أكلت بعضها، وكسا لون الخراب أزقتها وشوارعها، ولم يعد تاريخها يتحرك إلا على خطو المليشيات، ووقع راياتها السود، لا فرق بين "داعش" وسواها، وقد يعبر الصيف ويتلوه الخريف، ويقبل الشتاء، وليس ثمة جديد. ما يحدث فقط أن مياه الفرات سوف تصطبغ بلون الدم أكثر فأكثر، ويموت الناس الأبرياء سهواً، تبقى فقط مهمة البحث عن الضحايا، مهمة "إنقاذ الأرواح" التي أدركتها قبلنا النجمة أنجلينا جولي التي قالت إن المهم ليس البحث عن هوية الضحية، المهم هو إنقاذ الروح.
واذا لم نؤسس لفعل إنقاذ دائم للفلوجة، فسوف نظلمها للمرة الثالثة، و"الثالثة كارثة"، كما علمنا أجدادنا.




583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"