الفتوى الدينية ونتائج الانتخابات

الفتوى الدينية ونتائج الانتخابات

27 أكتوبر 2014

عالم دين يدلي بصوته في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني(يناير/2006/Getty)

+ الخط -

ترتكز ممانعة بعض النخب العلمانية في الوطن العربي للانتخابات والتصويت الشعبي، وتفضيلها أنماطاً من الاستبداد السياسي على الاحتكام لصناديق الاقتراع، في جزء أساسي منها، على تصور معين للمجتمعات العربية، مفاده بأن هذه المجتمعات، بسبب تدينها ومحافظتها، تسير إلى الانتخابات بالفتوى الدينية، وتتأثر بالخطاب الديني، فتنتج هيمنة كاملة للإسلاميين على المعادلة السياسية، وبالتالي، تقتضي المسألة تغييراً ثقافياً للمجتمع، قبل التوجه إلى الانتخابات والديمقراطية. في المقابل، تسيطر هذه الفكرة على إسلاميين يرون أن المجتمع لن يقبل غيرهم، وأنه في حال حصلت انتخابات نزيهة، فالنتيجة محسومة لصالحهم، لأنهم يمثلون ثقافة الناس وهويتهم، ولأن الناس لن يقبلوا بغير الشريعة وممثليها، وهو ما يجعلهم في الصدارة دائماً. لكن، هل تحدد الفتوى والخطب الدينية بالفعل الخيارات الانتخابية لمجتمعاتنا؟

قبل الخوض في تأثير الفتوى، لابد من التوقف عند قضية تهيئة المجتمع التي يرددها علمانيون عرب بكثرة، إذ يشيرون إلى أهمية "النضج الانتخابي" للمجتمع، ويستبطن هذا الطرح عدم تحقق هذا النضج من دون اختيار الجمهور هؤلاء العلمانيين، وهذا اشتراط لا علاقة له بأي تنظير حول نضج العملية الديمقراطية، وإنما هو تعبير عن فوقية ونرجسية نخبوية، وربط غير مبرر للرشد، باختيار أيديولوجي محدد، كما أن الاختيارات الانتخابية السيئة تحصل في مجتمعات عريقة في ممارستها الديمقراطية، فقد اختار الناخبون الأميركيون شخصاً مثل جورج بوش لولايتين، ورجلٌ فاسدٌ مثل جاك شيراك وصل إلى الرئاسة باختيار الناخبين الفرنسيين، ولم يقل أحد أن المجتمعين الأميركي والفرنسي ليسا ناضجين، ولابد من منع الممارسة الانتخابية عنهما.

الأسوأ أن دعوة أولئك العلمانيين لتهيئة المجتمع تضرهم هم أكثر من غيرهم، فهم يشرعنون الاستبداد السياسي، وإغلاق المجال السياسي أمام الجميع، فلا يستطيعون دعوة الناس إلى أفكارهم وبرامجهم بحرية، وحشد الجماهير وتعبئتها، ولا يمكنهم مجاراة الإسلاميين في هذه الحالة، إذ يستطيع الإسلاميون التحايل عليها، عبر الأساليب الدعوية والمنابر الدينية، في حين لا يتمكن العلمانيون من العمل في ظل إغلاق الفضاء السياسي، ما يجعل قدرة العلمانيين على حشد الجمهور تراوح مكانها.

لقد شهدنا، مع انفتاح المجال السياسي في أكثر من بلد عربي، سقوط أوهام حول الخيارات الانتخابية للناخبين العرب، من أهمها أن الفتوى، والخطاب المشبع بالرموز الدينية، هي من يحدد خيار الناخبين. في العراق، وبعيداً عن تقييم نظام المحاصصة الطائفية الذي أنشأه الاحتلال الأميركي، ساد اعتقاد بقدرة الأحزاب الدينية، المتدثرة بعباءة مرجعية النجف، على اكتساح المشهد السياسي، وعززت من هذا الاعتقاد، صراعات الهوية في العراق، التي كان متوقعاً أن تُقَوِّي دور حوزة النجف ومراجعها، في تحديد القوة الشيعية المتزعمة للطائفة، والمهيمنة على نتائج الانتخابات.

في البداية، كان الائتلاف الشيعي الموحد يستخدم مرجعية النجف غطاءً سياسياً، ويحشد الناس تحت شعار مباركة المرجعية له، وفاز في الانتخابات البرلمانية عام 2005، وأصبح الكتلة الأكبر، لكن الناخب العراقي استيقظ، لاحقاً، على إشكالات أمنية، ومشكلات معيشية وخدمية، غيرت مزاجه باتجاه نوري المالكي، مع افتراقه عن كتلة الحكيم المقربة من النجف. في الانتخابات الأخيرة، دفعت حوزة النجف باتجاه انتخاب كتل شيعية منافسة للمالكي، لمنعه من ولاية ثالثة، فكان المتحدثون باسم السيستاني، أكبر مراجع النجف، يحث الناس على التغيير في الانتخابات، وانبرى الشيخ بشير النجفي، أحد المراجع الخمسة الكبار في النجف، للإعلان، بوضوح شديد، عن رفض تولي المالكي ولاية ثالثة، ودعا الناس صراحةً للتصويت لكتلة المواطن بقيادة عمار الحكيم (ابن المرجعية)، وتحالف المعمَّمان، مقتدى الصدر وعمار الحكيم، تحت راية المرجعية، في محاولة لإيقاف تقدم نوري المالكي.

على الرغم من موقف المراجع الكبار في حوزة النجف، جاء التصويت الانتخابي في مصلحة قائمة نوري المالكي، بفارق كبير عن كتلة المواطن، ولم يتأثر خيار الناخبين الشيعة بفتوى المرجعية النجفية.

في مصر، شاهدٌ آخر، فقد تقدم الإخوان المسلمون والسلفيون، مع فتح المجال السياسي، وحازوا نسبة كبيرة في أول انتخابات برلمانية بعد ثورة 25 يناير، واعتقد الجميع أن هذه النسبة ستتكرر في كل الاستحقاقات الانتخابية الأخرى، وأن الخطاب الديني الذي يحشد به "الإخوان المسلمون" والسلفيون، سينجح في ضمان فوزهم في كل مناسبة انتخابية، لكن الانتخابات الرئاسية رجحت كفة مرشح "الإخوان"، على مرشح فلول حسني مبارك، بنسبة ضئيلة، ولم تكن الكتلة الناخبة لـ"الإخوان" كافية لترجيح محمد مرسي، فقد احتاج لأصواتٍ علمانية مؤيدة للثورة ليفوز. حاول عبد الفتاح السيسي، أيضاً، أن يحث الناس على انتخابه، باستخدام أئمة مساجد، تحدثوا عن وجوب المشاركة دينياً، فكانت النتيجة إقبالاً ضعيفاً، لم يعالجه تمديد الاقتراع يوماً إضافياً.

صحيح أن المجتمعات العربية متدينة ومحافظة في الغالب، لكن هذا لا علاقة له بخياراتها الانتخابية، فهي مثل المجتمعات الأخرى، يتغير مزاجها الانتخابي، تبعاً للظروف والمعطيات السياسية والاقتصادية والأمنية، وفي حال فُتِحَ المجال السياسي للتنافس، وتداول السلطة، ستتوزع بين اختيارات حزبية مختلفة، في مراحل مختلفة، ولن تسير على طريقٍ مرسوم بالفتوى الدينية بالضرورة، كما يخشى بعض العلمانيين، ويتوهم بعض الإسلاميين.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".