الغجر: شعبُ غرباءٍ عابرين للحدود في زمن الحدود

الغجر: شعبُ غرباءٍ عابرين للحدود في زمن الحدود

09 اغسطس 2015
غجريان في 1949 يعيشان في غابات بريطانيا (Getty)
+ الخط -


يتناقل الغجر في العالم عموماً، وفي أوروبا خصوصاً، تاريخهم شفهياً، ويؤكدون أن أصولهم تعود إلى الهند، وأن هجرتهم من هناك بدأت في عام 800 بعد الميلاد، وهو ما يدعمه خبراء اللغة الذين درسوا اللهجة التي يتكلم بها هؤلاء، ليكتشفوا بأن لغتهم هي خليط من الهندية والسنسكريتية. بعض الشعوب والقبائل الأوروبية كانت تظنهم مصريين قدماء، وخصوصاً في بدايات العام 1300.

التعريف الأقدم في عدد من الدول الأوروبية، ومنها الإسكندنافية، كان يطلق عليهم جهلاً اسم "تتار". وفي معاجم اللغات الإسكندنافية القديمة، هذا التعريف يعني ضمناً "فقير ومحتال" و"رجل ليل"، بمعنى الوقوف على الدعارة، لإفراغ جيوب الرجال الآخرين.

البحث عن أصول تلك النظرة السلبية التي رافقت "شعب الرومان"، يشير إلى أنها ارتبطت بخرافات متعلقة بلغة القوم، التي اعتبرها المحيطون بهم "لغة سرية" تحمل شيفرات لا يفهمها غيرهم. حدث ذلك منذ القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بعدما عبر "الغجر" (شعب الرومان) شمالاً نحو النرويج والسويد من خلال الدنمارك في 1410 آتين من بريطانيا بعد عمليات إبعاد واسعة لهم اتسعت في القرن السادس عشر.

امتدّ وجود شعب الرومان عبر التاريخ إلى دول عدة في الشمال الأوروبي، فهؤلاء في ألمانيا أطلق عليهم مسمى "سينتي"، وهي تسمية ربطها هؤلاء على اعتبارهم قادمين بالأصل من "السند" الهندية.

تاريخ من الاضطهاد

ليست لدى الغجر لغة مكتوبة ليستدل منها على تاريخ مدوّن لهم، لكن تاريخهم مليء بالملاحقة والاضطهاد، بدأ في عام 1500 باعتبارهم "خارجين عن القانون" فأعدم الكثيرون منهم وطرد آخرون من عدد من الدول.

في فنلندا، أطلقوا على الغجر تسمية "موستاليست" (السود) أو "كالو"، وقدّرت أعدادهم بحوالي 10 آلاف إنسان، وما زالوا حتى اليوم يظهرون بملابسهم التقليدية، ويصعب عليهم الاندماج في المجتمع ويعانون من موجات كراهية. أما في السويد، حيث تقدّر أعدادهم بحوالي 120 ألفاً، فالأمر لم يكن أقل كراهية وأحكاماً مسبقة، حين كان يصفهم، حتى السياسيون، بأنهم "متسببون بـ90 في المائة من الأعمال الجنائية ضد المواطنين الآخرين". لكن منذ عام 2000 تغيّر الوضع واعترفت السويد بهم كأقلية، لهم مدارسهم الخاصة وحقوقهم كأقليات أخرى.

وفي الدنمارك، سُجل أول قانون معاد لهم في عام 1536 وسمي باسم "قانون الغجر" (سيغوينا لوو)، والذي حمل ضمنياً اعتبارهم خارجين عن القانون، ويبعدون ويعدمون في حال الإمساك بهم. توقفت عمليات الإعدام فقط في عام 1736، وبدل الإعدام كانوا يوضعون في معسكرات اعتقال ومعازل ويؤخذ منهم أطفالهم حديثو الولادة.

اقرأ أيضاً: 17 مدينة عليك زيارتها قبل أن تموت:الشام والقاهرة بينها!


في عام 1875، صدر قانون "إبعاد الأجانب" والمستهدف الأساسي هم الغجر. وبحسب ما تصدره وزارة الدمج في الدنمارك لا يجري تسجيل "المهاجرين" إلا وفق بلدانهم الأصلية، وبهذا فإن الغجر، أو من هم من أصول غجرية قديمة قبل الستينيات، غير مسجلين، ويقدّر عددهم بين 10 إلى 15 ألف شخص. وكثير من هؤلاء، وخصوصاً ممّن يتحدّرون من أصول مهاجرة من رومانيا وغيرها من دول شرق أوروبا، يخفون هويتهم الحقيقية وأصولهم الغجرية بسبب سوء العلاقة الطاغية بينهم وبين السلطات المحلية التي بدأت تتعامل حديثاً أيضاً مع الغجر الرومانيين باعتبارهم خارجين عن القانون.

نظرة ما تزال قائمة حتى في التاريخ الحديث، باعتبار الغجر مسؤولين عن كل ما يجري في شوارع ومحطات ومطارات الغرب من سرقات وتحايل، هذا بالرغم من أن بعضهم يمارس حياة اعتيادية منذ هجرته.

في عموم الدول الأوروبية يقدّر المختصون، ومنهم منظمات الغجر أو شعب الرومان، أعدادهم بين 10 و14 مليون نسمة في مختلف الدول الأوروبية. وفي رومانيا وبلغاريا ودول أخرى قريبة، يشكل الغجر نسبة 5 إلى 10 في المائة من عدد السكان، ومن بين هؤلاء جاءت الهجرات الحديثة بعد انهيار الأنظمة الاشتراكية وتوسّع الاتحاد الأوروبي، حيث بات الأوروبيون في شوارعهم يتصادفون بوجود الغجر، الذين يمارس بالفعل بعضهم الاحتيال والسرقة ويعيشون على حواف المدن وفي غاباتها بـ"كرفانات" وسيارات قديمة متهالكة (يعتبره البعض جزءاً من ثقافة رفض الاستقرار).

اقرأ أيضاً: المغامرة المجانية: خطر أم تجربة ممتعة؟

بكل الأحوال، تبدو مشكلة أوروبا مع الغجر مشكلة تاريخية وثقافية قائمة على سوء الفهم والرفض لما هو مختلف، وبالتحديد عدم فهم تقاليد تلك القبائل (كما حدث في مصادماتهم مع فرنسا في 2009 حيث جرى طرد الآلاف منهم). لكنها مشكلة تزداد عمقاً مع وعي شعب الرومان إلى ما يسمونه "حقوقاً" في دول الاتحاد الأوروبي، ويرفعون أحياناً قضايا أمام المحكمة الأوروبية لاتهام حكومات (مثل ألمانيا والدنمارك) حين يمنع عنهم الدعم المالي المقدم مؤقتاً ريثما يجد الإنسان عملاً، وهم في بعض حالاتهم يراهنون على أنه ليس هناك مَن سيشغّلهم لذا يصرون على التنقل من دولة لأخرى للحصول على تلك المعونات.

وباتت لديهم اليوم منظمات تدافع عن حقوقهم ومواطنتهم، وتضغط باتجاه الاعتراف بهم كأقليات وطنية في الدول المختلفة. وهي في العموم أزمة تعاني منها أوروبا، ليس فقط مع الغجر، فالتاريخ الطويل من تشنج علاقة أوروبا بمواطنيها من أصول أخرى كشفت أقبح وجه لها في الحرب العالمية الثانية، واليوم تتكرر بثوب آخر عن (الأجانب/ الغرباء) باستعلائية تصف كل من هو ليس بأوروبي أصلي بأوصاف لا تليق بالبشر.

الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

في اللغة العربية ثمة مفردة تشبه إلى حد بعيد معظم المصطلحات التي تصيب "شعب الرومان" بسهام الرفض وتعميم التهمة، تشير إلى مدى احتقار هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم قبائل غجرية: نور... أو نوري... هذا عدا عن مصطلحات قريبة إلى المحلية في مجتمعات ترى كل صنيعة منافية للعُرف "تصرفاً نَوَرياً". "يا غجر!"... "ولي... كوالي!"...

اقرأ أيضاً: حلية الأنف.. من سفر التكوين إلى صيحات المشاهير

وعلى الرغم من أن الحديث يدور كثيراً عن الغجر في الغرب الأوروبي، إلا أنّ هؤلاء ينتشرون أيضاً في آسيا والمنطقة العربية وشمال أفريقيا، وتطلق عليهم تسميات مختلفة ومتفاوتة من بلد لآخر، ففي إيران ما يقارب 700 ألف يسمون "دومري" و"نور"، وفي العراق 23 ألفاً من الـ"كوالي"، وفي سورية 46 ألفاً، وفي تونس والمغرب والسودان ومصر ما يقارب المليونين من "شعب النور، شعب الدوما" (هناجره).