العرب في زمن الحصار

19 يوليو 2015
+ الخط -
من كل الأركان، تبدو الدول والمجتمعات العربية تعيش حالة حصار، فلا أحد ينجو من هذه الظاهرة، ولا أحد لديه القدرة، ولا رفاهية الوقت، لكسر حالة الحصار هذه، بل إن بعض اللاعبين راح يسعى إلى الاستثمار في هذه الحالة، والتكيف معها، باعتبار أنها تشكل فرصة لإنتاج بدائل أخرى، كمخارج للأزمة الراهنة التي تطوقهم. 
العرب محاصرون على الصعيد الإقليمي، حيث تفرض تداعيات الأزمات على كل دولة، على حدة، الانكفاء إلى داخلها والانفكاك عن فضائها الإقليمي، واتباع سياسة الدفاع في إطاره الضيق داخل الحدود، وبذلك، تترك كل دولة المخاطر لمقاديرها تحاصرها بدون أي استراتيجية واضحة لتفكيكها، أو التصدي لها.

والعرب محاصرون على صعيد السياسات الدولية، حيث يتعرضون لضغوط هائلة، للاستجابة إلى المصالح الجيوإستراتيجية للقوى الدولية والإقليمية، والواقع أن الأطراف الخارجية، حتى الأصدقاء منهم، باتوا يحاصرون العرب باستراتيجياتهم، وتتجلى مشكلة الحصار، هنا، في الضغط على الواقع العربي، لينتج وقائع ومخارج تتناسب مع مصالح الآخرين، أكثر من كونها حلولاً للأزمات الداخلية العربية.
العرب محاصرون على صعيد جغرافي، حيث باتت الأقاليم في حالة انفلات، وذهبت الدول إلى تركيز وجودها وقوتها في داخل العواصم، أو على أطرافها، فيما تترك الأطراف والهوامش للأقدار، ويخصص لها الجزء الضئيل من موارد الاستراتيجيات الوطنية في الدفاع، وحتى على صعيد التنمية.
جراء ذلك، تعيش المجتمعات العربية حالة حصار خانقة. وبعد الربيع العربي، باتت العلاقة بين الشعوب والأنظمة معقدة، بعد أن أصبحت الأخيرة تنظر بعين الشك إلى شعوبها، حتى في البلدان التي لم تقع فيها ثورات، كما أصبحت هذه الشعوب على علم، بعد تدمير الربيع العربي، بما يمكن للأنظمة وأدواتها القيام به، وتجارب الشعبين، السوري والمصري، ما زالت وقائعها جارية حتى اللحظة. لذا، عادت هذه الشعوب ووضعت رقيباً صارماً على تصرفاتها وسلوكها ومراقبة أبنائها، الصوت العالي الذي ينذرها "بدكم يصير معكم مثل السوريين والمصريين" يرن في أسماعهم بتحدٍّ ووقاحة.
هذه النتيجة التي وصلت إليها المجتمعات العربية كانت بسبب كسر الربيع العربي وانتصار الثورات المضادة التي أفرزت هذا الوضع، حيث بات الجميع في مأزق، فلا الشعوب العربية استطاعت القفز إلى الحالة المثالية المطلوبة، بعد أن صرفت طاقتها في ثورات اعتقدت أنها ستكون العتبة للخلاص، ولم يعد أغلبها يملك احتياطياً استراتيجياً للتثوير، ولا الأنظمة استطاعت أن تخرج عن نمطيتها في إدارة الصراعات الاجتماعية والأزمات السياسية، ويتجلى عمق المأزق في أن الأنظمة والنخب السابقة لم يكن لديها تصورات إستراتيجية لإدارة وصنع السياسة في زمن الرخاء، وهي، في زمن الانفجار، تحاول إغراق الوضع بمزيد من المأزق، حيث تتبع نمط إدارة يقوم على فصل الأزمات عن بعضها، ومحاولة معالجة كل جزئية بشكل منفصل، وتقديم هذا النمط على أنه إدارة ازمة. ويمثل سلوك أنظمة عبد الفتاح السيسي وبشار الأسد نموذجاً حياً لهذا النمط في إدارة الأزمات، حيث يعمل السيسي على عزل أزمة سيناء، ومحاصرتها بعيداً عن أبعادها الاجتماعية والاقتصادية. وفي هذا التجزيء، يجري تصوير سيناء على أنها مجرد عناصر إرهابية متمردة. وفي إطار الاستثمار، يسعى نظام السيسي إلى استثمار الأزمة في محاصرة المجتمع المصري بالعسكر وقوانينه وإداراته، أما بالنسبة لنظام الأسد فهو يجعل من الحصار أسلوباً لارتهان المجتمع السوري، وتحطيم كل قدراته على الثورة، ويستثمر هذه الحالة في تنويع بدائله، مثل التخطيط للدولة الطائفية التي بات يشتغل عليها بهندسة وتوافق مع حلفائه.
المشكلة أنّ حالة الحصار والانكفاء باتت تهدد الدول التي لم تزل، حتى اللحظة، تملك مقومات الاستمرار والفعالية. ونتيجة هذا المأزق، بات ينظر للأردن على أنّه مخرج لأزمات المشرق، والمشكلة أنّه حتى لو أراد الأردن القيام بهذا الدور، فإن ظروفه وإمكاناته لا تسمح، فيما يرتب صانع القرار الأردني أولوياته بحماية البلد، وهو أمر بحد ذاته صار صعبا ومعقدا.
الخلاصة أنّ حالة الحصار تدفع إلى الواجهة بكل الخيارات السيئة، بوصفها المخارج الواقعية المتاحة، وخصوصاً مع طول زمن استمرارها وتراكم إفرازاتها السلبية، وهي تدفع حكماً إلى تطوير بدائل أخرى، مثل تفكك الدولة، ذلك أنها تقدم دورة تدريبية للمكونات المحلية على إدارة نفسها ذاتياً، وتأمين مواردها وصناعة هيكلياتها السلطوية ضمن أطر ضيقة، ليس بالمعنى الإيجابي الذي يخفف من آثار المركزية الاستبدادية. ولكن، بمعنى البحث عن طرق وأساليب أخرى، وهو الأمر الذي بدأ يتمظهر في حالات الانكفاء الاجتماعي، واللجوء إلى المكونات الصغرى، الطائفية والعرقية والقبلية.
بات العرب اليوم ملزمين بإعادة صياغة تبويبهم المخاطر. وعليه، يجب أن يكون فك طوق الحصار على كل المستويات هو التحدي الأول الذي تجب مواجهته، هذا الحصار الخانق لن ينتج عنه سوى مزيد من الانفجارات التي ستزيد من حدّة التصدع. ولكن، على أن تراعي تلك الصياغة حقوق الشعب العربي في الحرية والكرامة، واختيار شكل نظام الحكم الذي يناسبه، فقد ثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّ محاولة استعادة مضامين مرحلة الاستبداد السابقة ورموزها لن تكون إلا وصفة لاستمرار الاضطراب والدمار.
 
5E9985E5-435D-4BA4-BDDE-77DB47580149
غازي دحمان

مواليد 1965 درعا. كتب في عدة صحف عربية. نشر دراسات في مجلة شؤون عربية، وله كتابان: القدس في القرارات الدولية، و"العلاقات العربية – الإفريقية".