الشعب الأجنبي

الشعب الأجنبي

06 أكتوبر 2019
+ الخط -
عندما ينضب رصيدها الشعبي، تلجأ الأنظمة المفلسة إلى ذرائع مثيرة للسخرية، لاستدرار عطف الشارع معها، ومن ذلك ما انتهت إليه أجهزة الأمن السيساوية في "تحقيقاتها" عن التظاهرات التي اندلعت في المدن المصرية أخيرا، ضدّ جنرالها المنقلب، أدام الله بسطاره فوق رؤوسها، فذهبت في مبرّراتها الواهية إلى اتهام "أجانب" بالتحريض والمشاركة في التظاهرات، والمقصود بالأجانب رعايا دول عربية، ومنهم أردنيون.
وعلى الرغم من أنني عشت ألف رجب، ورأيت مليون عجب، من أنظمتنا المستبدّة، غير أنني أعترف بصراحة بأنني لم أعش مثل هذا العجب الجديد الذي سبّبته نتائج التحقيق السيساوية، فقد توقفت حدود معلوماتي عند "أجانب" يأتون لتفجير قنبلة، أو حزام ناسف، أو لاغتيال شخصية ما، ولكن لإشعال مظاهرة تطالب بإسقاط نظام حاكم لا شأن لها به، فهذا ما قلب مداركي، وجعلني أعيد حساباتي بشأن "المؤامرات" التي يحملها السيّاح والزوّار والرعايا في حقائبهم الملغومة. وتساءلت أي متهوّرين هؤلاء الذين يقدمون على الاغتراب وزجّ أنفسهم في شوارع مكتظة، وسط أناس لا يعرفونهم ولا يتقنون لهجتهم، ومن ثمّ يرفعون قبضاتهم في الريح، وينادون بإسقاط من؟ جنرال دمويّ لم تجفّ بعد دماء ضحاياه في ميداني رابعة العدوية والنهضة. ثم من يضمن، على افتراض أن أهل البلد الحقيقيين فهموا لهجة المحرّضين الأجانب، أن تجد هتافاتهم صدىً في نفوس الشعب، فيشاركوهم الهتاف وتتسع التظاهرة لتشمل مدنًا أخرى، ولتصبح مطلبًا شعبيًّا جماعيًّا؟
في المقابل، أيّ مصير ينتظر مثل هؤلاء "الأجانب"، في حال أخفقت هتافاتهم باستقطاب أهل البلد إلى جانبهم؟ ألن يكون المحاسب الأول هو الشعب ذاته الذي وجدهم يقترفون "جريمتهم" بين ظهرانيهم وفي شوارعهم؟ وعندها ما الحاجة أصلًا لاعتقالهم وتوقيفهم، لأن الشعب لن ينتظر تلك الإجراءات البيروقراطية، وسيعمد من فوره إلى عقابهم والتنكيل بهم، أم أن الشعب "الدمويّ" اختار أن يسلمهم إلى أجهزة الأمن السيساوية بنفسه؛ لأنه يعرف جيدًا أنه مهما بلغت مستويات تنكيله لن تضاهي مقدار شعرة في موازين أجهزة بلده، خصوصًا حين يستحضر أنموذجًا لم تشف قروح جثته حتى الآن مما وقع عليها من عذابٍ رهيب، وأعني به "الأجنبي" جوليو ريجيني، الطالب الإيطالي الذي سافر إلى مصر لدراسة اقتصادها، وقاده سوء طالعه إلى الوقوع في براثن الأمن السيساوية التي جعلته يعيش "فصلًا من الجحيم"، قبل أن تجهز عليه تمامًا، ويعود إلى بلاده فلول جثة، حيث كشف التشريح الذي أجري عليها أن صاحبها "تعرض لعنف حيواني غير إنساني".
وسط الاحتمالات تلك جميعها، تبدو الإدانة واضحةً لا للأجانب، بل لأجهزة الأمن الكاريكاتورية، فهي إما كاذبة، بحثًا عن أي مبرّر لتطهير جنرالها من أيّ غضبٍ شعبيّ عليه وعلى انقلابه المشؤوم، وانخداع المصريين به، بعد أن "شربوا مقلب الانقلاب"، أو أن تكون نتائج التحقيق صائبة، غير أن ذلك يدين الأجهزة ذاتها وزعيمها المزعوم، لأنه يعني أن الشعب المصري يقف على عود ثقابٍ آيلٍ للاشتعال من أي شرارةٍ يتلقاها، حتى لو جاءت محمولةً على حنجرة "أجنبيّ"، ولنصل إلى النتيجة ذاتها: "الشعب المصري ينادي برحيل نظامه"، وبإسقاطه، مهما تعدّدت أسباب التظاهرات وتشعبت، فهل ستكتب أجهزة الأمن السيساوية تلك النتيجة في تقريرها، أم ستكتفي بتحميل "الأجانب" مسؤولية السعي إلى إسقاط نظام الحكم وإثارة الشارع المصري؟
لست حانقًا على أيّ أجنبي جازف باقتراف هذه الجريمة؛ لأنني مدرك تمامًا أن الشعب المصري كله يمكن أن يصبح "أجنبيًّا" في نظر جنرال الانقلاب وطغمته، خصوصًا عندما يثور عليه وينادي بإسقاطه، وعندها يغدو دمه مباحًا للسفك في الميادين والشوارع؛ على قاعدة أنه ليس ثمّة وطنيّ حقيقي في مصر غير الطاغية وأزلامه، مثلما أدرك أننا "نحن الأجانب" العرب نختزن من الغيظ المشروع على هذه الطغمة ما يدفعنا إلى الانخراط في أي تظاهرة تنادي بإسقاطها، حتى ولو اندلعت في هونولولو.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.