السودان... علامَ الحوار علاما؟

18 أكتوبر 2015
+ الخط -
أشهر قليلة بعد انقلاب الجبهة الإسلامية في السودان عام 1989 على الحكم الحزبي التعددي، تفتقت عبقرية الانقلابيين عن فكرة الحوار الوطني. وجرت دعوة عامة لشخصيات سياسية ووطنية وفنية عديدة للمشاركة في "الحوار الوطني". كان غالب المدعوين، وخصوصاً من الشخصيات السياسية والوطنية يضربون أخماسا في أسداس، تغمرهم الدهشة حول الفكرة التي يريدها الانقلابيون، وقد تكشفت طبيعة انتماء هؤلاء للإخوان المسلمين. يومها، أمضى المتحاورون زماناً، وانتهى الأمر بحرب جهادية غير مسبوقة في جنوب السودان. في هذه الأيام، والبلاد تعصف بها أمواج الأزمة السياسية والاقتصادية، خرج النظام الشمولي بفكرة تعيد السيرة الأولى للحوار الوطني تمايزاً، وكأن هناك حواراً آخر غير وطني. الثابت في الحالتين أن السودان وقف على شفا الأزمة العاصفة، وأيما أزمة.
في 1989، كانت دعوة الحوار لتمرير بلع الانقلاب المفضوح، وتسويقه إنقاذاً، كما خرج الاسم يوم ميلاده. الآن، وبعد أكثر من ربع قرن، جرّب السودان حكماً كارثياً، في تجربةٍ تصلح لأن تكون درسا للاعتبار، ومنهجا لمعنى كلمة كارثة الحكم في سياقها العملي. ومن دون أن يقصد حزب المؤتمر الوطني (الحاكم)، وهو التسمية المخادعة الأخرى في تسلسل تسميات الإخوان المسلمين البراغماتية، التقت الشخصيات نفسها، المبادرة في المرة الأولى، مع تغيرات طفيفة في تسمية الشخصيات الوطنية، ودخول الفن المعبر الحقيقي عن أزمة الحكم والثقافة والأخلاق في السودان، ممثلاً في مطربة يرقص على إيقاع أغنياتها أهل الحكم حماسة. بمعنى أن الحكم يعود، بجناحيه، ليصوغ فسيفساء الحاكمين أنفسهم، بعد طول فراق، ويجلس الشيخ حسن الترابي مستمعاً لخطاب الرئيس عمر البشير، مع اختلاف وحيد أن الترابي لم يعد الرئيس المخفي، كما في المرة الأولى لما كانت الديمقراطية مصادرة بأمر الانقلابيين. وهذه المرة، أصبحت مصادرة الحريات والديمقراطية أمراً واقعاً، وأشواقاً مرتجاة من القوى المعارضة.
كانت في السودان وقتها حرب واحدة في جنوب السودان، واليوم هناك ثلاث حروب فيما تبقى من السودان في دارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. كانت وقتها حركة شعبية
واحدة، واليوم مع "الحوار الوطني" الثاني حركات شعبية وحركات تحرير. ومن داخل قاعة المؤتمر، تقول رئيسة إحدى هذه الحركات المسلحة، لم يسمع باسمها غالبية أهل السودان إلا لما اعتلت المنبر، لتقول لرئيس السودان إنها قادمة من "الأراضي المحررة"، وإنها ستعود من حيث أتت، لو لم يلب الحوار الوطني طموحاتها. القاعة نفسها، مع تغيير في الديكور، ومع تحسن كثير في صحة المتحاورين وتقدمهم في السن. كان الحوار وقتها يخص من هم داخل القاعات، ولأغراضٍ لا يعرف الناس خارج القاعة هدفاً واحداً له، فلم يستشرهم أحد من الانقلابيين، ولا هم معنيون بمخرجات الحوار المبهم، على الرغم مما تردد أن في الأمر إنقاذ للسودان. اليوم، يجري الحوار بين الشخصيات الرئيسة نفسها، مع ديكور ممل من ثمار جهد الحزب الحاكم بتفتيت الأحزاب المعارضة إلى أحزاب تسميها الصحافة الحكومية نفسها "أحزاب الفكة". ظلت خارطة المعارضة الحزبية، في غالبها، على حالها خارج القاعة، "الأمة" و"الشيوعي" وأحزاب أخرى وحركات مسلحة كثيرة، أفرزها سوء إدارة الحكم. خارج القاعة، لم يعد السودان على حاله، ذهب جنوبه، وما تبقى يواجه خطر التفتت. الأزمات تحاصر الشعب والفساد يسد الأفق، مئات الآلاف فقدوا منازلهم شرقاً وغرباً وفي الجنوب الجديد. مئات آلاف يقفون على هامش الوطن، فزعاً وخوفاً من حكومة تطير طائراتها على وقع توجيهات رسمية من كبار المسؤولين "اقتل، امسح"، لا مكان للأسرى. صورة الفقر مفجعة، والفساد الذي يتجاوز كثيراً الشعارات البيروتية، تقابلها صورة الثراء الفاحش والقصور التي شيدها من ادعى يوماً الطهر والزهد والتعفف، ورفع راية أن الإسلام هو الحل تبدو الأكثر تعبيراً عن حجم الأزمة في الفكر وفي الفعل.
ولهذا كله، لا أعتقد أن لدى المتحاورين في الحوار الوطني أية مبرّرات لكي يحلم إنسان عاقل في الشعب السوداني بأن لديهم حل لمشكلاته. ففي بطونهم وذقونهم وفي شيبهم وسنواتهم العجاف أس البلاء وأسباب الواقع الذي بلغه السودان وشعبه. أفضل ما يمكن فعله، ومباشرة وبغير مداورة، أن يحلوا عن كاهل الوطن والشعب. أفضل ما يمكن تقديمه للشعب إعلان الفشل التام، والتخلي عن الحكم، فمن مارس الفشل أكثر من ربع قرن لا يمكن أن يقنع عاقلاً بأنه، وبعد أن تقدم في العمر كثيراً، وأنهكته العلل، سيحالفه النجاح. ومهما استمر الحوار شهراً أو ثلاثة أشهر، وفق المعلن، فهو محتوم بالفشل، لأن للشعب كتاباً مفتوحاً سنوات، لم يقرأ فيها نجاحات مسجلة سوى في البؤس والموت وتشظي الحلم في بلد يسع الجميع.
أخلص إلى القول إن الحوار الإيجابي يقتضي جلوساً متكافئاً بين الحكم ومعارضيه السياسيين، بمن فيهم القوى المسلحة، على أن يفضي إلى صيغة جديدة لحكم السودان، متفق عليها سياسياً واقتصادياً وثقافياً. وأن يترجل الحكم الحالي، لأن الواقع يقول إن أزمة السودان في حكومته وحزبه الحاكم والحاكمين. بمعنى آخر، يحتّم الظرف السياسي نظام حكم جديداً، يقول وداعاً للشمولية، ومرحبا ببناء السودان على أسس ديمقراطية جديدة، تستجيب لروح العصر، وفي هذا فليتحاور المتحاورون.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.