الرئيس صاحب الخطابات

14 نوفمبر 2015

أوباما... موهبة خطابية بدون إرادة سياسية تجاه إسرائيل (Getty)

+ الخط -
طمأن البيت الأبيض المطمئنين في تل أبيب بأن ولاية الرئيس باراك أوباما لن تشهد، على الأرجح، حل الدولتين. وجاء التصريح بمناسبة زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، واستقبال الرئيس له الاثنين الماضي 9 نوفمبر/تشرين ثاني الجاري. وتصريح مثل هذا نموذجي في التدليل على أن سيد البيت الأبيض منذ سبع سنوات نجح في تبهيت صوته ودوره، على نحو مضطرد، رئيساً للدولة العظمى، مُستعيضاً عن ذلك بإلقاء خطابات عصماء في الأمم المتحدة. وحينما ألقى الرجل في القاهرة خطابه الرنان، في الرابع من يونيو/حزيران 2009، لم يدُر في أذهان مستمعيه أنه خطيب مفعم بمشاعر إيجابية تجاه قضية العدل والحرية، من دون أن يعني ذلك امتلاكه مواهب أو إرادة سياسية، بالقدر نفسه الذي تتسم به موهبته الخطابية.
في واقع الأمر، جاء تصريح البيت الأبيض بمثابة تذكير بأن الرئيس أوباما خطيب ناجح، بيد أن الخطابات الناجحة لا تُلزم ساكن البيت الأبيض. وقد قيل، في هذا المعرض، إن أوباما أراد تخفيف غلواء نتنياهو من الاتفاق النووي بين إيران والغرب. وهو تفسير لا يخلو من منطق، فالرجل الذي سيمكث عاماً آخر في مكتبه البيضاوي، مراقباً ما يحدث في العالم، لا يتردد في بيع قضية العدل والحرية لقاء رضى أحد أكثر زعماء العالم تطرفاً وعنصرية، لأمر يتعلق بالاتفاق النووي من جهة، ولتسهيل معركة المرشح الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية، بحيث يأتي هذا المرشح متسلحاً بموقف التنصل العملي من حل الدولتين، بما يجعله مستحقاً بركة اللوبي الصهيوني الأميركي ودعمه، على أن ذلك لا يكفي الدولة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط، فقد جاء نتنياهو محملاً بطلبات التزود بأحدث المقاتلات الأميركية، ومنها طائرات إف ـ 35، ذلك أن جيش الدفاع الإسرائيلي يتعين أن يحظى بالأسلحة نفسها التي يتمتع بها الجيش الأميركي، وعلى دافعي الضرائب الأميركيين أن يدفعوا ثمن هذه المقاتلات وسواها من أسلحة متطورة. يُضاف إلى ذلك رفع المعونات السنوية، لكي تبلغ أربعة مليارات على الأقل في العام. والسيد أوباما مثل الرؤساء الأميركيين السابقين يتصرف كمدين لإسرائيل، وعليه سداد ديون فلكية، وغير معلوم مقدارها بالضبط، ومتى يمكن الوفاء بها. وبصرف النظر عن أية مواقف أخرى، وعلى الضد من خطابات سابقة للخطيب المفوّه. ففي اللقاء الذي يستحق أن يوصف، من باب وصف الشيء بنقيضه، بأنه لقاء تاريخي، بادر الرئيس لتقريع الرازحين تحت الاحتلال لممارستهم العنف، وطمأن الاحتلال على أن أمنه يشكل أولوية مطلقة، وعلى التفوق النوعي الذي يتعيّن أن تتمتع به تل أبيب على ما عداها من دول صديقة، تعج بها المنطقة! ولم يتطرق الرئيس للغزو الاستيطاني للأرض المحتلة، وقد بدا ضَجِراً، كغيره، من الحديث عمّا كانت تسمى عملية سلام، لكن ضيفه أبدى "انفتاحاً سلمياً" يفوق المضيف صاحب الخطابات، حين تحدّث عن قبوله بدولةٍ فلسطينية (لم يقل على أي أرض، وتحت أي سماء سوف تقام) شريطة أن تكون منزوعة السلاح (لا يوجد في العالم دولة منزوعة السلاح سوى "دولة الفاتيكان")، وأن تعترف بيهودية إسرائيل.. بما يضمن تهديد مواطنيه غير اليهود، وهم العرب الفلسطينيون أبناء البلاد، من دون أن يضمن قيام دولة فلسطينية بالفعل.

يفخر أوباما بأن إدارته أوقفت عسكرة السياسة الخارجية لبلاده. ومع ذلك، لا يجد تناقضاً في إغداق الأسلحة والتجهيزات والمعدات على تل أبيب، شأن رؤساء جمهوريين عسكروا السياسة الخارجية لبلادهم، أو في تمتيع تل أبيب بحرية استخدام الخيار العسكري ضد جيرانها، متى شاءت وحيثما أرادت، وكذلك ضد اليافعين والفتيات الفلسطينيات، فهؤلاء العُزّل يشكلون تهديداً للدولة ذات التفوق النوعي.
"لقاء تاريخي" يستحق اعتباره لقاء الاستسلام التام لصاحب الخطابات الذي سبق أن أبدى تبرماً شديداً من إلقاء نتنياهو، في مارس/آذار الماضي، خطاباً في الكونغرس، حثّ فيه الأعضاء على عدم تأييد الاتفاق النووي مع إيران. وقد تبين أن الدواعي الانتخابية هي التي أملت موقف الديمقراطيين، وممثلهم في البيت الأبيض، الناقم آنذاك على زعيم الليكود الذي يتقرّب من الجمهوريين. وكان نتنياهو استبق زيارته هذه بتعيين مستشار إعلامي شاب له، هو ران باراتز (42 عاماً)، وهذا سبق له أن وصف أوباما بأنه معادٍ للسامية، فيما وصف وزير الخارجية جون كيري (72عاماً) بأن عمره العقلي لا يتعدى 12 عاماً. وقد وعد الضيف نتنياهو بمعالجة الأمر لدى عودته، وقد عاد، وظل مستشاره الإعلامي في موقعه. بينما كانت المرشحة هيلاري كلينتون، في الأثناء، تُشيد في مقالاتٍ نشرتها في صحف إسرائيلية بإسرائيل "التي ليست مجرد دولة.. بل هي حلم"، والحال أن الوصول إلى البيت الأبيض هو حلم السيدة كلينتون، مرشحة الحزب الديمقراطي، وأقرب المرشحين إلى الرئيس الديمقراطي الحالي الذي ربما يستعد لمعاودة إلقاء خطاباتٍ، بعد مغادرته البيت الأبيض في مطلع عام 2017.
وهكذا، فإن خصوصية العلاقة بين واشنطن وتل أبيب والتحالف الصلب كالصخر القائم بينهما، يسمحان لتل أبيب بتوجيه الإهانات إلى واشنطن، وتتولى الأخيرة الرد بعبارات من الغزل بالدولة الحلم، فيما يرحب الرئيس بضيفه الإسرائيلي الساخط، موبخاً خصوم الضيف من الفتية الفلسطينيين الذين يجنحون إلى العنف في وجه دولةٍ، يشكل أمنها أولوية للمضيف.
تعبير الخصوصية لا يفي العلاقات الأميركية الإسرائيلية حقها، فهناك درجة عالية من الشذوذ في هذه العلاقات الاستراتيجية التي تُكيّف فيها الدولة العظمى سياستها، كي تلبّي على الدوام مصلحة دولةٍ صغيرةٍ، قامت على الإرهاب واغتصاب الأرض وتشريد شعب، وبأسوأ مما عمل المستوطنون الأميركيون حيال السكان الأصليين للقارة الأميركية، فلم يقذفوهم خارج الحدود.
وكل ما حدث في السنوات السبع الماضية، وما هو مرجّح حدوثه في السنة المتبقية، هو أن سيد البيت الأبيض صاحب الخطابات واظب، كأسلافه، على التقيد بهذه السياسة الشاذة، متحدّياً في ذلك نفسه ومنقلباً عليها، ضارباً عُرض الحائط بمضمون خطاباته، بما يجعله الرئيس الأكثر غرابة وإثارة للدهشة بين الرؤساء الأميركيين الأربعة والأربعين.