الدولة المنتظرة.. إنصاف مَن في القاع

21 يوليو 2015
+ الخط -
من سنن الكون، أن الأمور لا تبقى على حالها، ومن طبيعة البشر اللهفة الدائمة لتحصيل مزيد من خيرات الحياة، فإذا ما حصل الإنسان على مكسب ما، سرعان ما يقفز إلى ما يعتقد أنه خيرٌ أكبر. هكذا باختصار، هي طبيعة علاقة الفرد بالسلطة التي تحكمه. ولأن السلطة ليست كياناً هلامياً، لا يمكن توصيفه بدقة، فإن السلطة تتمظهر في عين الفرد، جماعة وطبقة حاكمة، أو مجموعة مؤسسات، ينظر إليها بصفتها المسؤول الأول عن تحقيق ما يصبو إليه الإنسان من نِعم، أو ما يتعرض له من نكبات.
في الدول الغربية، وبعد معاهدة وستفاليا تحديداً، تم الاتفاق على حدود الدولة الوطنية، وانتهى بذلك التنازع على السلطة، وعلى سيادتها على أراضيها، ومن تُمثل من مواطنين، فأعادت كل سلطة تعريف من هو المواطن، وقام كل كيان بتطوير طرق الحكم، وجرى توسيع دائرة المنتفعين من الخيرات العامة، على قاعدة المساواة في الفرص بين المواطنين، وقد تطورت الفكرة الليبرالية الكلاسيكية "أكبر منفعة لأكبر عدد" في رحم هذه الدول التي تبنت هذه الفلسفة في إدارة مؤسسات الدولة، ثم عملت على تطويرها نحو نماذج أكثر عدالة؛ وذلك بهدف تضييق الفجوة بين من هم في أسفل الهرم، ومن هم في أعلاه، لكن هذا لا يعني أن السلطات الحاكمة في هذه الدولة لا يوجد فيها تحيزات، أو أنها لا تحوي طبقة مُهيمنة.
في أماكن ليست قليلة، جرى التشكيك في النظرية الليبرالية، حيث تم اعتبارها نظرية قاصرة، ولا تحقق مساواة حقيقية أو عدالة اجتماعية. قُدِّمَ نقد كثير للسلطة ولفلسفة الحكم فيها، إما عبر تطوير النظرية الليبرالية أو بنقدها ومحاولة فرض فلسفة بديلة منها، ومن أهم هذه الانتقادات، كانت فكرة الفيلسوف الأميركي، جون راولز "العدالة بوصفها إنصافاً"، والتي أقرت أن الليبرالية، بشكلها الكلاسيكي، لا تحقق العدالة المنشودة لجميع المواطنين، لأنهم لا يولدون متساوين. بالتالي، لا يمكن أن ينعموا بالخيرات نفسها. لذا، يجب أن تنبني المؤسسات في مصلحة الأقل حظاً داخل النظام، لكن مشكلة راولز أنه جرّد أفراد المجتمع من أي خلفية ثقافية تسبق العقد الاجتماعي، وافترض أن تنازل الجميع من أجل الجميع سيحل المشكلة.
أضاف المفكر الجمعاني، مايكل ساندل، نقداً جدياً للفلسفة الليبرالية، وأعطى وصفاً دقيقاً لغياب المساواة والعدالة في النظام الليبرالي الغربي، على الرغم من كل التطور الذي لحق به، حينما قال، إن ثمة جماعات تتعرض للظلم، كجماعة لا كأفراد، وأن الطبقة المُهيمنة في النظام الجديد "لحظة التأسيس" تبقى مسيطرة في جميع اللحظات التي تليها، ما دام النظام الليبرالي يقدم الحرية في تحقيق أعلى ربح على العدالة الاجتماعية، ولا يسعى إلى محاربة سوء توزيع الثروة أو توسيع المستفيدين من الخير العام.

في معرض رد ساندل على جون رولز، ذكّره بالإحصاءات التي قدمتها جامعة هارفارد العريقة، من حيث عدد المنتسبين إليها في الخمسين سنة الماضية، ومن أي الطبقات الاجتماعية يتحذرون، فلقد لاحظ ساندل أن 3% فقط من طبقة الفقراء نجحوا في الحصول على القبول في هارفرد، وهذا يعني، فيما يعني، أن تميز الطبقة المُهيمنة سوف يستمر إلى ما لا نهاية، لأن أفراد الطبقة الأخيرة "يبدأون السباق، وهم متقدمين على الفقراء خطوات"، بحسب وصف ساندل. لذا، فإن الحديث عن السلطة كان، ولا يزال، عن طبقة تسود وتدير الدولة بحسب مزاجها وبرنامج عملها، منفردة بالحكم، أو عن طريق تحالفات، وهذه التحالفات الرئيسية للدولة، كانت ومازالت تعود بالنفع على المتحالفين معها، فالسلطة تهبُ من تشاء وتحرمُ من تشاء. في أميركا، مثلاً، حينما قرر المتضررون من السلطة التمرد، توجهوا نحو الفئة الأكثر إفادة من السلطة، كبرى الشركات في "وول ستريت" لمحاصرتها ومحاولة إسقاطها.
إذن، لا ينسى الناس بسهولة تركيبة السلطة وتحالفاتها في لحظات التمرد على ظلمها، وكذلك السلطة الحاكمة، حين يداهمها خطر ما، فإنها تعود إلى تركيبتها وتحالفاتها "لحظة التأسيس"، لأنها، كما يقول صاحب كتاب نظرية الدولة، نيكولاس بولانتزاس، اللحظة الأساس والأصل، وما عداها مجرد عادة عابرة. لكن هذه السلطة يعاد إنتاجها كلما تغير النظام. والسلطة تعتقد أن الحلقة المحيطة بها، هي الأكثر موثوقية ضمن التركيبة الاجتماعية في البلد، فلا تسعى، أبداً، إلى المساس بمصالحها، وإن كان على حساب تحقيق العدالة للطبقات المسحوقة. شاهدٌ آخر على كلامنا، ما قام به الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، حينما شعر بتهدد حقيقي لسلطته، فعلى الرغم من ادعائه أنه يمثل العراقيين بكامل أطيافهم، وأن الدولة العراقية دولة مدنية، لا يوجد لدين المواطن أو عشريته مكان في سياستها، إلا أنه عاد واحتمى بعشيرته طلباً للنجدة، بدلاً من الاتكال على الحزب السياسي الذي ينتمي إليه، فقرَّب من قرب من عشيرته، وأطلق الحملة الإيمانية. هذا الأمر ليس خاصاً بصدام وحده، فرئيس الوزراء السابق، نوري المالكي، زعيم كتلة "دولة القانون"، استخدم الأدوات نفسها حينما قرب أجله، فتحدث أن المعركة في العراق هي بين معسكري الحسين ويزيد، وراح يطنطن على اللحن الطائفي المقرف.
من حسن حظ الغرب أن الأنظمة العلمانية غيرت شكل العلاقات داخل الدولة، من علاقات عشائرية وطائفية إلى علاقات مصالح اقتصادية، وأيديولوجيات سياسية، ومن حسن حظه أكثر، أن النظام الديمقراطي مرن بطبيعته، فيُتيح فرصة تغيير الطبقة الحاكمة من دون الحاجة إلى حمل السلاح، وإلا لدخلت اليونان في حربٍ أهليةٍ طاحنة، من أجل تغيير الطبقة الحاكمة التي قادت البلاد نحو الإفلاس.
أزمتنا في الوطن العربي أزمة دولة منتظرة، تعمل مؤسساتها في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية لمن هم في قاع المجتمع. لكن الحاصل اليوم، أنه كلما داهمتنا أزمة عاد العقل الحاكم يحتمي بطائفته، وكلما فكرنا في التغيير انزلقنا للانتقام من الطبقة الحاكمة، بمحاربة طائفة الحاكم، فلا السلطة كانت قادرة على نسيان "لحظة التأسيس" والشروع في بناء تحالفات، بناءً على مشاريع سياسية، ولا الطبقة المتضررة من هذه السلطة أشاحت نظرها عن فكرة الانتقام من الجميع.

59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"