الدقامسة يعود إلى السجن

الدقامسة يعود إلى السجن

21 مارس 2017

أحمد الدقامسة.. كان في السجن يرى كل شيء بوضوح

+ الخط -
لو كان يعرف أحمد الدقامسة من يتربّص به، ليغتاله عقب خروجه من السجن، لآثر أن يظل بين القضبان طواعية. لكن، من حسن طالعه أنه خرج ليلًا، فلم تختلط عليه الرؤية.
في السجن، كان الدقامسة يرى كل شيء بوضوح، متأثرًا بقصيدة نجيب الريس: "يا ظلام السجن خيّم إننا نهوى الظلاما.. ليس بعد السجن إلا نور فجر يتسامى"، مع اختلافٍ بسيط في زمن التحولات العربية، قوامه أنه لم يعد هناك "نورٌ" بعد السجن، بل كان النور كله داخل القضبان ذاتها التي كان ينشد وأمثاله التحرّر منها.
وفي السجن، كان الدقامسة يرى "المحتلّ" جيدًا، لا يشطره إلى أصولٍ وفروع، وأنصاف وأرباع، على قاعدة أن "كل من يحتل أرضي فهو عدوي"، سواء كان المحتل رجلا أو امرأة، عسكريًّا أو مدنيًّا، كهلاً أو فتىً، لأن الدقامسة وأضرابه، ممن يرون المحتل بوضوح، يعرفون أنه لم يحدث في تاريخ الاحتلالات كلها أن غادر محتلٌّ أرضًا استولى عليها بمحض إرادته، لا هو ولا أبناؤه، ولا أحفاده، بل إن الأحفاد يصبحون أشدّ تشبثًا بالاغتصاب، لأنهم لا يعودون يعرفون أرضًا غيرها، ولأنهم يصبحون أشدّ انتماءً ودفاعًا عن هذه الأرض الوحيدة، باعتبارها أصبحت وطنهم.
أما المولعون بـ"الأصول والفروع" فهم على عكس ذلك؛ إذ تقودهم فلسفاتهم "الحقوقية" إلى تقسيم المحتل وتفريعه، بين رجلٍ وامرأة، وكهل وفتى، ومذنب و"غير مذنب"، وصولاً إلى تفريغ الاحتلال من مضمونه الهمجي، كليًّا، والاستعاضة عنه بجماعاتٍ "مسالمة"، ضلت طريقها، ووجدت نفسها، مصادفة، على أرضٍ ليست أرضها، ومن ثم لا يحق للشعب المحتل أن يقاوم محتله، أو على الأقل أن يفصل بين "حبات العدس"، قبل أن يسدّد الرصاص.
اعتمادًا على نظرية "حمامات السلام" هذه، يمكن القول إنه لم يبق سوى بضع سنوات على انقراض فلول "المحتلّ الأصلي" الذي يتحمل "الوزر كله"، وسيجد الفلسطينيون أنفسهم أمام جيل جديد من المحتل، لا يجوز تحميله خطأ آبائه وأسلافه، وسيتعيّن عليهم إلقاء السلاح، نهائيًّا، والقبول بــ"المحتل البريء"، والخضوع لسلطته.
على هذا المشهد الجديد، استفاق الدقامسة في اليوم الموالي لخروجه من السجن، ففرك عينيه مرات عدة، وفي ذهنه أنه سيرى الأشياء أكثر وضوحًا من عتمة الزنزانة، لكنه فوجئ بأنه لم يعد مبصرًا.
ولربما استغرب الدقامسة ما حدث له، لأنه كان يستطيع أن يرى الأحداث على بعد 1948 ميلاً، ويستطيع تفسيرها وتحليلها على بعد 1967ميلاً آخر، لكنه يشعر الآن بأنه لا يقوى على تحديد موضع خطوته.
الواقع أن الدقامسة كان يتأهب للخروج، وفي ذهنه أن من يقيمون "خارج السجن"، يشاركونه ذلك "الوضوح"، لكنه ما إن وصل إلى باب السجن، حتى فوجئ بأن "الخارج" أصبح ظلامًا دامسًا، يعجّ بمن ينكرون عليه بصره الفطريّ الواضح في تحديد العدوّ، ويذهب بعضهم إلى حدّ اتهامه بـ"الإرهاب"، فيما يدعوه آخرون إلى "الاستغفار"، وينزعون عنه صفة المقاوم، على الرغم من أنه دفع حصته من مقاومة المحتل كاملة غير منقوصة، استهلكت من جسده وروحه عشرين عامًا، وفي ظنه أنه سيستقبل بالزغاريد والتبريكات والامتنان لقاء تضحياته.
غير أن الدقامسة الذي نجا عشرين عامًا من هذه التحولات البائسة التي نخرت الروح العربية، سيعرف، عاجلًا أم آجلًا، أن أسوأ هذه التحولات كلها أن يكون القاتل واضحًا والضحية ملتبسة، ذلك أن ما تغير فعلاً ليس القاتل، بل الضحية التي انقسمت هي ذاتها إلى أصول وفروع، وتشتتت رؤيتها، وألبست جلادها ثوب "الضحية" تارة، وعباءة "الفضيلة"، تارة أخرى، في حين جعلت من المقاوم مدانًا، والمدافع عن وطنه جلادًا، وراحت تسوّغ لسوط القاتل أن يُجلد على أي نحو يشاء، أما الضحية فمذنبة، إن لم تفرد جسدها كاملًا لضربات السوط.
الآن، يكتشف أحمد الدقامسة أن من يتربص به ليغتاله بعد الخروج من السجن ليس القاتل، بل الضحية التي تحاول ارتداء ثوب الجلاد، لتعيد محاكمته، ولربما يعضّ أصابعه ندمًا على دفاعه عن شعوبٍ تتسوّل المحتلين إذا لم تجدهم فوق رقابها.. وأراهن، عندها، أنه سيعود إلى السجن طواعية، ليستعيد بصره.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.