البوذا النازي: هوس فنان روسي بالعظمة والخلود

04 فبراير 2018
لوحة للفنان روريش تظهر التمثال (فيسبوك)
+ الخط -
تقول القصة إن فرقة عسكرية نازية أثناء تجولها في بعثة في منطقة التيبت، في ثلاثينيات القرن الماضي، سرقت تمثالا يعود لآلاف السنين. التمثال تجسيد لـ "الفايرشفانا"، وهو إله من الآلهة السماوية الأربعة في الديانة البوذية. على صدر التمثال، ثمة صليب معقوف داخله رمز، ويشكل رمزا للحظ ومصدراً للثروة في الكثير من ديانات الشرق الأقصى، كما هو معروف.
لاحقا، صارت المعلومات متوفرة عن التمثال بشكل أفضل. في عام 2012، تحقق علماء المعادن الألمان، من الصخور الحديدية الصلبة والشديدة القسوة، والتي يتألف منها التمثال. وأكدوا أن الأحجار التي صنع منها التمثال لم تعد موجودة الآن في هذا العالم، لأنها أجزاء من "النيزك الصيني"، وهو نيزك معروف لدى علماء الكون، ضرب الأرض قبل حوالي 1400 عام. 

في كثير من الأحيان، استخدم البشر السبائك المعدنية من الفضاء كمواد خام. ومن المعروف في منطقة التيبت، بأنه حتى بضعة سنتيمترات من أحجار النيزك، لها قيمة معنوية ورمزية كبيرة. حتى أن شفرة خنجر تمثال الفرعون المصري، توت عنخ آمون، مصنوعة من "مادة سماوية". لكن، تمثال "الفايرشفانا" أو كما سمَاه العلماء "الرجل الحديدي"، هو المادة البشرية الوحيدة في التاريخ، والمصنوعة من أحجار النيازك بشكل مطلق وصاف.

لكن من أين جاء هذا الرمز الغريب داخل التمثال؟ ومن الذي صنعه أو رآه لأول مرة؟ هذا فعلا بقي لغزا وسرا، حتى جاء المؤرخ الألماني، إيسرون إنغلهاردت، إذ تعقب بإصرار أصل هذا الاتجاه البوذي- النازي، والاهتمام النازي بالبوذية، وفك رموز اللغز ودلالات الرمز على التمثال إلى حد كبير. نشر إنغلهاردت نتائج دراسته في جريدة "Die Zeit" الألمانية المشهورة.

بدورهم، حاول علماء المعادن الألمان الذين اكتشفوا أصل الحجارة في عام 2012، معرفة المزيد حول الرمز الغامض داخل التمثال. أجروا مقابلات مع علماء معروفين في مجالات الدراسات الثقافية، وجمعوا كثيرا من النظريات والآراء، وقارنوها. كل عالم أعطى رأيه بالمعنى التاريخي الثقافي المتوقع لهذا الرمز. بعضهم أرجع أصل الرمز إلى الإله، بعضهم أكد أنه يشير إلى الحاكم السياسي في ذلك الوقت، ظهرت آراء تؤكد أنه يشير إلى الديانات البوذية أو التيبتية. كل شيء كان قابلا للتخيل، الأمر الذي أدى إلى نمو وانتشار العديد من الأساطير المتشابكة حول هذا الرمز في التمثال.

كان التفسير الأكثر شيوعا أن الرمز داخل الصليب ليس معجزة غامضة، وهو يأتي إما من منطقة منغوليا، أو منطقة التيبت. وكان يعتقد بشكل مؤكد، على الأقل في كثير من الأوساط، أن الرمز الغامض يعود إلى ديانة "بون"، وهي ديانة كانت قبل البوذية، وانتشرت في تلك المناطق، قبل سيادة البوذية في القرن الثامن.

تأتي مكانة التمثال في ألمانيا، لأنها تشير إلى رحلة بحثية سيئة السمعة في التاريخ الألماني، قام بها عالم الحيوان الألماني، إرنست شافر. ترأس شافر، وبتكليف من النازيين، بعثة إلى منطقة التيبت، بين عامي 1938 و1939. آنذاك، كانت الرحلة إلى ذلك البلد المعزول تماما، مصدر إلهام لمؤامرة باطنية وخفية لأعضاء الحزب النازي. حصل شافر على الدعم والتشجيع للقيام بالرحلة، من الضابط الألماني النازي، رئيس قوات SS، هينرش هيملر. كان هيملر حريصا على إيجاد آثار تثبت ادعاء النازية بخصوص قدم العرق الآري و"أصالته" و"عراقته"، أي لدعم الأيديولوجيا النازية العنصرية. إذ كان من المفترض أن يقوم شافر وفريقه، وغالبيتهم كان قد تم تعيينهم حديثا من قبل الحزب النازي، بقياس أطوال وأحجام جماجم الناس الذين يقطنون ذلك البلد المغلق. لكن، وبسبب هوسه بالحيوانات، ولأنه عالم حيوان بالدرجة الأولى، فضل شافر التركيز في كل دراساته على الطيور المحلية. حتى الآن، تمتلئ أدراج متحف العلوم الطبيعية الوطني في برلين، بعشرات الحيوانات التي جمعها شافر في رحلته.
لكن، ومنذ عام 2012، بدأت الشكوك تنتشر حول الرواية السائدة القائلة، بأن شافر وفريقه أخذوا التمثال معهم من التيبت. إذ إن خصائص وصفات التمثال، البالغ طوله 24 سم كارتفاع، مع أكثر من 10 كيلوغرامات للحية كثة، تبدو غير نمطية وغير منتشرة في التيبت. وشكك الباحث في الديانة البوذية، أخيم باير، من جامعة "دونكوك" في سيول، في مقال نشره، بانتماء التمثال إلى التيبت، وذلك اعتمادا على شكل بنطال التمثال وحذائه. ورجح باير بشدة أن التمثال لا يعود إلى آلاف السنين، بل صنع في الفترة الواقعة بين عامي 1910 و 1970، إذ إن صفات التمثال الشكلية، هي الصفات الشكلية السائدة في التيبت بين بداية ومنتصف القرن العشرين. وأكد باير في عام 2012، أن التمثال لا يمكن أن يكون قد وجد في التيبت! كما أن المؤرخ الألماني، إيسرون إنغلهاردت، شكك بشكل جدي في الرواية، وأشار الخبير في عام 2012، أيضا، إلى أن التمثال لم يكن مع عالم الحيوانات الألماني الأشقر، أثناء بعثته في التيبت. وبدأ إنغلهاردت في البحث عن أصل التمثال الغامض. إذن، ما تم دحضه على الأقل هو القصة السخيفة للأصل الآري للإله بوذا، لتحويله إلى رمز نازي، ودعم البروباغندا النازية حول نقاء العرق الآري وسيادته على الكرة الأرضية.

على ما يبدو، ثمة تاجر روسي مشكوك في أمره، قد عرض التمثال للبيع بالفعل لخبراء المعادن في عام 2007. اسم البائع بقي مجهولا لأنه فضل عدم الكشف عن هويته. ولكن، إنغلهاردت حدده من خلال بحثه عن صورة التمثال على مواقع التواصل الاجتماعي، ووجد أنه شخص روسي اسمه إيغور كالدين. الروسي، وفقا لبحث إنغلهاردت، حاول أن يبيع التمثال في بيت المزاد العلني في مدينة كولونيا الألمانية. على عكس خبراء المعادن الألمان، رفض المختصون بتاريخ الفن شراء القطعة، لأنه كان واضحا جدا بالنسبة لهم، أن أصل التمثال ليس من التيبت. وقد اشترى القطعة الأثرية عام 2009، عالم الجيولوجيا الألماني، فينر، والمتوفى الآن، بمبلغ 20 ألف يورو. ويبدو أن رواية الروسي، كالدين، عن الأصل القديم للتمثال، قد جعلت فينر يدفع هذا المبلغ.

بعد ذلك، توضحت الكثير من الأدلة حول أصل الرمز الغامض في قلب التمثال. إذ وجد العديد من خبراء الفن، تشابه التمثال شكليا مع شخصية الفنان الروسي المبهر، نيكولاس روريش (1874- 1947). كان روريش عالما وكاتبا وفنانيا وصوفيا ومعلما. وقد سافر مع زوجته في النصف الأول من القرن العشرين، عبر جبال الهملايا وكل آسيا. لم يرسم روريش الطبيعة المحلية في آسيا ذات الألوان الرائعة المتفجرة فقط، بل تأثر بالروح الباطنية الصوفية المحلية ونقلها معه.

في العشرينيات والثلاثينيات، كانت التيبت بلدا معزولا تماما، ولم يكن للأجانب فعليا أي قدرة على دخول هذا البلد. الخرافات والأساطير حول المكان، غذّت شوق كل الرحالة غريبي الأطوار. كان روريش واحدا منهم، واتخذ من مسألة إيجاد المدخل الخفي للوادي البوذي الغامض هدفا لحياته. وكان يناضل من أجل مساعدة البوذية على تحقيق نصرها الروحي، وتحقيق إمبراطورية سياسية وجغرافية موجهة روحيا بالتعاليم البوذية. وفي عام 1923، أعطى أحد السكان المحليين من قبائل الشامالا قطعا من النيزك الصيني إلى روريش، إذ احتفظ بها طوال رحلته، واعتبرها أمرا مقدسا. بعدها، تضخم وهم روريش، وازداد سوءا، إذ وصف في رسالة إلى الدالاي لاما نفسه، أنه الملك القادم للشامالا. وتوضح فيما بعد، بأن روريش كان يخطط فعلا أن يدخل التيبت، كالملك الخامس والعشرين لقبائل الشامالا!

أثناء بحث إنغلهاردت في لوحات روريش، لاحظ لوحة رسمت في عام 1927، فيها تمثال بوذي يشبه وجه روريش. حدق إنغلهاردت، فوجد أن التمثال يشبه تماما "الرجل الحديدي"! تأكد وقتها، أن روريش، صنع تمثالا لنفسه، لتغذية وهمه بأنه إله بوذي لقبال الشامالا! لاحقا، ألقي القبض على روريش من قبل السلطات في التيبت، وأعيد إلى موسكو.

أما الرمز في قلب التمثال، فلم يفهمه أحد حتى الآن.

المساهمون