الأمن والاقتصاد في سلطة رام الله

04 يوليو 2014

شرطة نسائية فلسطينية في تدريب بأريحا (مايو/2014/فرانس برس)

+ الخط -

يريد رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، وفريقه انتزاع الاستقلال الوطني الفلسطيني وبناء الدولة الفلسطينية بطريقة استثنائيةٍ وغريبة، وتحمل نقيضها في داخلها، إنها طريقة التنسيق الأمني والسلام الاقتصادي مع الاحتلال. وحتى يقطع رئيس السلطة الشك باليقين بشأن نواياه، فقد أعلن، أخيراً وصراحةً، أن "التنسيق الأمني مقدس". ويحمل هذا التقديس للتنسيق الأمني، ضمناً موقف هذه السلطة من الاحتلال والمقاومة ومن الشهداء والأسرى. إنه يحمل موقفاً من تاريخ الثورة الفلسطينية منذ عام 1936، ومن الذاكرة السياسية للشعب الفلسطيني.
الواقعون تحت الاحتلال ينزعون إلى التحرر منه بمقاومته والتمرد عليه ورفضه، ليس فقط على المستوى الأدبي، بل حتى على المستوى المادي. التناقض بين الموقف الأدبي في التصاريح والمؤتمرات والخطب والموقف المادي على الأرض هو نفاق سياسي، يبيع صاحبَه على الناس كلاماً ويسعى عملياً إلى نقيضه.
ما الذي يفعله محمود عباس، إذن، من أجل دحر الاحتلال وانتزاع الاستقلال؟
إنه، في تقديري، بناء جهاز بيروقراطي، يشبه الموجود في الدول، من أجل أن يقنع الفلسطينيين أنهم نالوا حلم الدولة على الأرض، من دون مقاومة، ومن أجل أن يقنع المجتمع الدولي أن منح الفلسطينيين دولتهم أمرٌ لا يمكن الانقلاب عليه.  ويعتمد هذا التوسع في بناء جهاز السلطة البيروقراطي، بالدرجة الأولى، على تضخيم الجهاز الأمني، والذي، بدوره، سيحرس المهمة المقدسة، حسب رئيس السلطة، ويعتمد، بالدرجة الثانية، على إحداث انتعاشٍ اقتصاديٍ، يجعل أكبر قدر ممكن من الفلسطينيين منخرطين في الاقتصاد الفلسطيني الجديد.
لكن الحقيقة المرة على أرض الواقع أن هاتين الأداتين (الأمن والاقتصاد) لا تساعدان الفلسطينيين على استقلالهم، بل إنها تعيق هذا الاستقلال، وتُضعف قدرتهم على مواجهة الاحتلال، إنها أدوات للهيمنة عليهم.
فعلى مستوى الجهاز الأمني، يمكن القول: إن رام الله صارت تمتلك جيشاً أمنياً من الشرطة والمخابرات والأجهزة المتعددة. وعلى الرغم من مساحة الضفة الغربية التي تقع في حدود الستة آلاف كم مربع، إلا أن جيش رام الله الأمني بلغت نسبته في العام شرطياً واحداً لكل 75 نسمة من السكان، وهذه من أعلى النسب في العالم. خمسة آلاف عنصر من هذا الجيش الأمني تتراوح أعمارهم بين 20 و22 سنة.


ولأن المجندين يتم اختيارهم من بين أبناء شعبٍ واقعٍ تحت الاحتلال، فإن هؤلاء المجندين يتم اختيارهم بعملية فرز خاصة، تكون الكلمة العليا فيها لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، ولجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي "شين بيت". في عملية الفرز هذه، يجب أن يخلو سجل المتقدم حتى من عملية رمي حجر على جيب الاحتلال. في هذا البرنامج التدريبي الذي تشارك إسرائيل في وضع برامجه، على المتدرب أن ينسى أن الاحتلال سبب معاناة الشعب الفلسطيني، وأن يعرف أن المقاومة ممنوعة تماماً على أراضي السلطة. في هذه العملية، تجعل إسرائيل الفلسطينيين مادة لحماية أمنها.
اقتصادياً، يدور الفلسطينيون في دائرة مركزها إسرائيل، السلام الذي يحرسه أمن السلطة جعل تبعيتهم لإسرائيل أشد وأكثر توغلاً في حياتهم. هذه التبعية هي ما فرضته على الفلسطينيين اتفاقية باريس الاقتصادية (ملحق أوسلو). اتفاقية باريس وحّدت التعرفة الجمركية للبضائع الواردة لمناطق السلطة وإسرائيل، كما أنها جعلت مرور البضائع الإسرائيلية إلى مناطق السلطة حراً، وجعلته مقيداً في الاتجاه المعاكس.
ومن ناحية أخرى، الاقتصاد الفلسطيني الذي أراد أن يروجه رئيس الوزراء الفلسطيني الشهير، سلام فياض، ما كان إلا نظاماً ريعياً، يعمل دورياً. ففي نهاية كل شهر، تغرف كل سلطة من معونات الأسرة الدولية لتوزعه على أرباب الأسر الفلسطينية العاملين لديها. وإذا كان المجتمع الدولي يمنح هذه المعونات، بناءً على برنامجها السياسي، فإن السلطة، بدورها، توزع هذا الريع الدولي بحثاً عن شرعية لبرنامجها السياسي بين الفلسطينيين، في حالة مركبة من رهن الاقتصاد للأمن والسياسة. وأبسط نظريات الاقتصاد وأكثرها استقلالية تقول: إن النمو وليد الإنتاج، وعلى أراضي الضفة ما من إنتاج حقيقي، فقاعة النمو هذه تنتجها أموال المانحين، إنه ريع يتدفق من الخارج ليرهن كل شيء لإرادة الخارج.
ومن خلال جهاز الأمن الذي يرعى "التنسيق الأمني المقدس" واقتصاد الريع الخارجي، فإن نشوء السلطة لم يُخفف من هيمنة إسرائيل على الفلسطينيين وتحكمها بحياتهم، فضلاً عن أن يحمل مشروع الاستقلال والتحرر، بل إن نشوءها أعاد تشكيل شكل هذه الهيمنة، وجعلها أقل كلفة على الاحتلال.  

دلالات
7DCBCDF9-9B50-4782-AA8C-FEDA3F7106B7
نايف السلمي

مهندس صناعي وكاتب سعودي مهتم بالفكر و الثقافة في الوطن العربي، ومؤلف مشارك في كتاب "في معنى العروبة .. مفاهيم و تحديات".