الأحزاب التونسية تتنافس على "الأصوات الضائعة"

03 نوفمبر 2016
محاولات لاستقطاب التونسيين الذين غابوا عن الانتخابات السابقة(أمين الأندلسي/الأناضول)
+ الخط -

تمر الساحة السياسية التونسية هذه الأيام بحالة من القلق والتململ، فلا اليمين مستقر لخياراته التقليدية، ولا اليسار مطمئن لطروحاته الأيديولوجية، في حين يبحث الوسط أصلاً عمن يمثّله، في ظل صراع بدأت ملامحه في البروز أكثر فأكثر مع اقتراب الاستحقاق البلدي في العام المقبل. ويبدو أن أزمة حزب "نداء تونس"، الفائز في الانتخابات التشريعية والرئاسية الماضية، وفقدان الأمل في تجاوزها، قد شجّعت بعض الوجوه، التي اختارت الانسحاب المؤقت من المشهد، على العودة والانطلاق في البحث عن صيغ سياسية وفرص ممكنة، في مشهد تثبت الأرقام أنه لا يزال مفتوحاً على استيعاب توجّهات حزبية جديدة، يمكنها أن تقوم على أنقاض هذا الحزب المريض.
وتُظهر أرقام الناخبين والمسجلين، والمصوّتين الفعليين، والمنقطعين الذين اختاروا الانسحاب من الانتخابات الماضية في 2011 و2014، صورة المجموعات الناخبة التي تتنافس حولها الأحزاب. فقد أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس، في عام 2014 أن مجموع الناخبين في تونس خلال الفترة 2011-2014 وصل إلى 5 ملايين و236 ألفاً و244 ناخباً، بينهم أكثر من 311 ألفاً في الخارج (في دول أجنبية).
ولكن الهيئة أوضحت بعد الانتخابات أن نسبة الإقبال على صناديق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية، بلغت 61.8 في المائة، أي حوالي ثلاثة ملايين ناخب في كل أنحاء البلاد، وبالتالي فإن حوالي مليوني ناخب اختاروا عدم المشاركة. ولكن الأرقام تتحدث عن أن أكثر من سبعة ملايين تونسي يحق لهم المشاركة في الانتخاب، ما يعني أن حوالي أربعة ملايين صوت بقيت خارج صناديق الاقتراع لأسباب مختلفة، ما يشكّل فرصة للأحزاب لاستقطاب جزء منها، وهو ما قد يقلب المعادلة السياسية التونسية برمتها، إن نجحت الأحزاب في جذبها.
وللتذكير فإن "نداء تونس" حصل في الانتخابات التشريعية الماضية على 85 مقعداً بعدد أصوات يُقدّر بمليون و200 ألف و995 ناخباً، في حين حصلت حركة "النهضة" على 69 مقعداً بحوالي 991 ألفاً و229 ناخباً.
وعند الأخذ بالاعتبار تفتُت أصوات وناخبي "نداء تونس"، بعدما انقسم إلى حزبين، ثم الترجيحات حول انقسامه الثاني هذه الأيام، فإن اللعبة الانتخابية التونسية تكاد تدور حول خمسة ملايين صوت تونسي، تنتظر من ينجح في إقناعها واستقطابها. وأمام هذه الوضع، بدأت بعض الطموحات السياسية لشخصيات تونسية في البروز، تعتقد أنها الأقرب إلى جمهور "نداء تونس"، أو الحزب الوسطي الذي يجمع بين مواصفات تقليدية تميّز عقلية الناخب التونسي لهذه النوعية من الأحزاب، وتجمع بين الدستورية التقليدية، والحداثة الاجتماعية، والمبادرة الاقتصادية الحرة التي لا تتخلى عن تدخّل الدولة، خصوصاً في المجالات الحساسة، كالصحة والنقل والتعليم.
وتبرز شخصيات مثل رئيس الحكومة السابق مهدي جمعة، وأمين حزب "مشروع تونس" المنشق عن "النداء" محسن مرزوق، ووزير التجارة في العهد السابق منذر الزنايدي، وزعيم حزب "المبادرة الدستورية" كمال مرجان، التي تعتقد أنها قريبة من هذا المناخ، ولعلها الأجدر بوراثة "النداء".
ولكن هذه الحسابات تغفل عن نوايا وبرامج مؤسس "نداء تونس"، الرئيس التونسي الحالي الباجي قائد السبسي، وعن مشروعه السياسي الباحث عن توازن سياسي أمام أهم الأحزاب المنافسة وأكثرها تنظيماً ولُحمةً واستعداداً، حركة "النهضة". وتُضاف إلى رغبة السبسي، حاجة رئيس حكومته يوسف الشاهد إلى حزب سياسي يسنده، وهو ابن "النداء" الذي خرج من رحمه، والمقتنع بضرورة ألا يرتكب خطأ سلفه الحبيب الصيد نفسه، الذي اختار البقاء بعيداً عن التحزب، ودفع ثمن ذلك بسهولة كبيرة.


ويقول مسؤولون في الحكومة، تحدثت إليهم "العربي الجديد"، إن الطبيعة ترفض الفراغ، وإنه أمام أزمة "النداء" واليأس من شفائه، تتزايد الحاجة بل تفرض البحث عن بديل جديد، أي حزب جديد يستفيد من بقايا "النداء" ولكنه يتقدّم إلى الناخبين بمواصفات جديدة، شبابية ومبادرة وخلّاقة، تسحب البساط من منافسين مهمين مثل مهدي جمعة ومحسن مرزوق، وكل الطامحين في التموضع بدل "النداء"، ولكنه يحمل أيضاً أملاً جديداً في تحقيق التوازن، ويجمع من حوله الديمقراطيين والحداثيين. ولكن الشاهد، ومن معه في هذه المبادرة، سيحتاج إلى أن يحقق بعض النجاحات الحكومية ليبرز كشخصية سياسية قادرة على إحداث فرق في حياة التونسيين اليومية، وبالتالي القدرة على قيادة مرحلة سياسية جديدة ستشهد إعادة ترتيب الكثير من الأوراق.
وبعيداً عن حرب الوسط المحتدمة، يشهد اليسار التونسي بدوره حالة من القلق الواضحة، بعد فشله المتكرر في جمع كل العائلة اليسارية، وعجزه عن التفاعل مع الاختبارات المتتالية بعقلية مُبادِرة جديدة، تمنع منافسيه من عزله في ركن الرافض الدائم، على الرغم من أنه يطرح أحياناً بعض الحلول البديلة للمشاكل الاقتصادية التي يواجهها التونسيون. إلا أن خطابه في هذا المجال يبقى ضعيفاً ولم ينجح في فرضه على الساحة بالشكل المطلوب، بالإضافة إلى انتقادات من داخل العائلة اليسارية نفسها، التي بدأت بعض مكوّناتها في البحث عن جبهات جديدة تتفاعل بشكل مختلف مع قضايا التونسيين، ولعلها ستنافس "الجبهة الشعبية"، على الرغم من أنها لا تمثل قاعدة شعبية كبيرة تمكّنها من ذلك. وفي كل الحالات سيزيد هذا المسار من تشتت اليسار، ويزيد من عزل الجبهة أكثر.
وتبقى حركة "النهضة" يميناً في حالة استقرار ظاهرة، على الرغم من مشاكلها الداخلية، ولكنها تحاول أيضاً "قضم" بعض أصوات الوسط، بتغيير خطابها نحو الحداثة، ونزع جلباب "الأخونة"، وتجديد هياكلها واستقطاب أصوات من خارجها. كذلك ينجح حزب "آفاق" الليبرالي في المحافظة على تماسكه، والتعويل على حركات استعراضية مثل استقطاب نجوم رياضية أو فنية، ولكن ذلك قد لا تكون له فائدة حقيقية في المنافسات الانتخابية، خصوصاً المحلية، ولكنه قادر على إحداث فارق في الانتخابات التشريعية.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن النظام البرلماني حوّل المنافسة من الفضاء العام المفتوح إلى داخل البرلمان، إذ أصبحت الأحزاب تتنافس على هذا النائب أو ذاك، من المستقلين أو المستقيلين أو الغاضبين، وتتناسى التنافس على الأصوات التي يمثّلها حقيقة. وأفرز هذا التوجّه وجود أحزاب بكتل كبيرة ولكنها لا تمثّل ثقلاً شعبياً حقيقياً في الخارج، مثل كتلة "الحرة" التي لم يتبيّن بعد حجمها الفعلي في المناطق، مع أنها فاعلة في المشهد السياسي.
ولعل الأحزاب التي لا تمتلك تمثيلاً نيابياً هاماً قد استفادت من هذا الأمر أكثر من غيرها، مثل "حراك تونس الإرادة" الذي يتزعمه الرئيس السابق منصف المرزوقي، إذ شرع هذا الحزب في التوجّه مباشرة إلى التونسيين في مدنهم وقراهم، وتأسيس مكاتب في المناطق. ولكن هذا الحزب القريب من وسط اليسار، مطالب بتوضيح خطه السياسي بشكل أكبر للناخبين البسطاء، على الرغم من أنه يحاول البقاء خارج التصنيف واعتماد خطاب ثوري يراهن على فشل النخبة السياسية الحالية بكل تشكيلاتها في إدارة البلاد، ويحاول أن يستقطب أصواتاً غاضبة من كل العائلات الفكرية، يميناً ويساراً. هذا الخطاب غير التقليدي يمكن أن ينجح نجاحاً كبيراً أو أن يفشل فشلاً كبيراً أيضاً، بحسب ما قد يتحقق أو لا يتحقق، وبحسب مزاج الناخب التونسي يوم الانتخاب، وقدرته على الخروج من إطاره المحافظ التقليدي. ويبدو أن المرزوقي انتبه لذلك، ويحاول أن يتوجه أكثر إلى جمهور الشباب الذي يمكنه أن ينزع رداء الناخب التقليدي بسرعة وسهولة، ويتمرد على الأنظمة، خصوصاً إذا فشلت في إحداث فارق في حياته.

المساهمون