إيران.. من ولاية الملك إلى ولاية الفقيه

إيران.. من ولاية الملك إلى ولاية الفقيه

29 ابريل 2014

البرلمان الإيراني في جلسة 13 أغسطس 2013(أ.ف.ب)

+ الخط -

أن تعيش على ضفاف الخليج العربي، يعني أن تكون إيران حاضرةً في حياتك السياسية، بشكل شبه يومي. الصورة التي تُنقل عنها لا تعكس، بالضرورة، الكثير مما دار ويدور فيها. أحياناً، لأن الناقل لا يتوخّى الموضوعية في النقل، أو أن الموضوعية لا تهمه كثيراً، ومرات كثيرة، لا يملك الناقل سوى صورة مجتزأة عن بلاد فارس وشعبها.
منذ العهد الصفوي، تشيعت إيران الدولة سياسياً، لمواجهة التسنن العثماني في حروب الإمبراطوريات التوسعية، والساعية إلى السيطرة على الثروات، وأصبح العرف فيها أن النظام الملكي يستمد شرعيته من هذا المذهب وفقهائه، واستمر الحال إلى عهد القاجاريين الذين حاولوا، في سنواتهم الأولى، استمالة الفقهاء، لكن من دون جدوى. كانت أغلبية المجتمع الإيراني تعيش الفاقة والعوز، وهي ترزح تحت نير الملكية المطلقة، المتحالفة مع الدول الاستعمارية، بريطانيا والاتحاد السوفييتي، فكانت الامتيازات التجارية وصفقات اسثتمار البترول مقسمة بين هاتين الدولتين، وكانت معظم الأراضي الزراعية في يد الإقطاعية الإيرانية، حيث كانت العائلة المالكة تحكم بالحديد والنار.
يملك المجتمع الإيراني تنوعاً عرقياً وثقافياً وسياسياً منذ القرن التاسع عشر، ولم يكن الفقهاء وحدهم من يتصدر المشهد السياسي والثقافي، بل كانت التيارات الوطنية واليسارية تسبقه سيراً على طريق الإصلاح. وكان بعض الفقهاء يسير إلى جنب هؤلاء، في نضالهم ضد الاستبداد والاستعمار، حيث كانت معظم التيارات السياسية الفاعلة متحدةً على التصدي لهذه الثنائية التي كانت تستأثر بالخيرات الإيرانية، وكانت المطالب الأولى لهذه القوى مجلس شورى منتخبا، يُخول تشكيل حكومةٍ ديمقراطيةٍ، تستطيع التفاوض مع هذه القوى الاستعمارية، للتخفيف من هيمنتها على تجارة النفط، وبقية السلع التي كان التجار الإيرانيون، أو ما يطلق عليه بالبازار يشتكون منها.


إذاً، في المشهد السياسي الإيراني، كانت هناك ثلاث قوى رئيسية، فاعلة في المجال السياسي، متضررة، بشكل أو بآخر، من تحالف المستبد والمستَعمِر، هي رجال الدين والقوى الوطنية، وفيها تنوعات سياسية شيوعية ويسارية وشعبية والبازار، قادت هذه الجماعات، مجتمعةً، ما يعرف بالثورة الدستورية 1905، لكن حراكها ووجه بانقلابٍ مدعومٍ من بريطانيا التي كانت تخشى فقدان امتيازاتها النفطية في جنوب إيران، ما دعا فقهاء كثيرين إلى الانكفاء عن العمل السياسي مجدداً، وهو الحالة السائدة عند علماء الشيعة، في تلك الفترة من التاريخ، مستندين إلى الروايات التاريخية التي تقول إن لا شرعية لحكومةٍ، ليس على رأسها إمامٌ معصوم، قبل أن يأتي آية الله الخُميني، ويقلب المعادلة رأساً على عقب.
لم يُمكِّن الانقلاب على الحكومة الدستورية شاه إيران من تثبيت حكمه، وتحقيق الاستقرار، حتى بعد انتقال الحكم إلى عائلة بهلوي التي سعت من خلال برامج تحديث كثيرة، لمحاكاة الدول الأوروبية والنموذج الأتاتوركي، إلى فصل المجتمع عن الفقهاء، أو التقليل من تأثيرهم عليه، من خلال مأسسة القضاء والتعليم الديني والرسمي، واستمرت القوى الشعبية والوطنية ومجموعات من رجال الدين في الاستبسال ضد حكم الاستبداد والقوى المستعمرة، وصولاً إلى حكومة الدكتور محمد مصدَّق 1951، الذي أمم النفط الإيراني، ثم أُطيحت حكومته، بمؤامرة انقلابية، أشرفت على تنفيذها المخابرات الأميركية، سي آي إيه، بعد أن أقنعت بريطانيا الأميركان بأن مصدق شيوعي، يعمل لمصلحة السوفييت. كان مصدق، حتى مع وجود مجلس شورى منتخب وحكومة ديمقراطية يترأسها بنفسه، يردد في أكثر من مناسبة، أن لا ديمقراطية بلا سيادة، ولا سيادة بوجود البريطانيين والسوفييت في البلاد. بكلمة واحدة، لم تحمل القوى الدينية مشروع دولة دينية، حتى تلك المرحلة، وكانت القوى الثورية في إيران تضع نُصب عينيها هدفين رئيسيين، هما: إسقاط المستبد والمُستَعمِر في آن. من هنا، نفهم سر مشاعر العداء التي يحملها الشعب الإيراني، اليوم، تجاه الحكومات الغربية، وسهولة تعبئته ضد وجودها، ومصالحها في المنطقة، فقد عملت هذه القوى، بمساندة الشاه، على إفشال الإصلاحات السياسية والاقتصادية في إيران، طيلة تلك الحقبة.
إذن، لم تكن القوى الدينية هي القوى الاجتماعية المسيسة، الوحيدة المناهضة للاستبداد في إيران، أو للوجود الأجنبي فيه، كما أنها لم تكن الوحيدة المشاركة في ثورة 1979، فقد كان للعمال والطلاب والبازار واليسار دور بارز في نجاح الثورة، لكن المؤسسة الدينية، لا شك، كانت من أهم القوى الموجودة على الساحة، وأكثرها تنظيماً، وقد أثرت فتاواها على عامة الناس. وبعد أن كان الفقهاء، في الثورة الدستورية الأولى، داعمين فقط، مشروع القوى الوطنية، أصبح لهم مشروعهم الخاص في قيادة الدولة، مع تطور نظرية ولاية الفقيه على يد الخميني، وساعدتهم الحرب العراقية على تشديد قبضتهم على النظام في إيران، وإقصاء خصومهم من السلطة، من خلال قانون منع الأحزاب السياسية من العمل، وإغلاق مطبوعاتها، وتطبيق الإقامة الجبرية على بعض فقهاء معارضين تلك السياسة، كمنتظري وشريعتمداري.
على الرغم من نجاح ثورة الشعب الإيراني في الخلاص من الاستبداد والاستعمار، وفي كتابة دستور للبلاد، وإقامة مؤسساتٍ سياسيةٍ فاعلةٍ، عززت الاستقرار السياسي، إلا أن صلاحياتٍ كثيرة للملك انتقلت إلى الفقيه، وانحصر النشاط السياسي، منذ نجاح الثورة الإسلامية، بين تيار إسلامي محافظ وآخر إصلاحي، يتنافسان في كل انتخابات على الوصول إلى السلطة، في ديمقراطية شبه مغلقة، ما يطرح تساؤلاتٍ كثيرةً بشأن حدود هذه الديمقراطية الدينية، وإمكانية تطورها، في ظل سلطةٍ مطلقةٍ للفقيه فوق سلطة الشعب.
 


 
 

 


 

59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"