إفراغ بلاد العرب من أهلها

05 سبتمبر 2015

لاجئون سوريون في بلدة مقدونية حدودية مع اليونان (أغسطس/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
صورة الصبي السوري الميت الذي ألقت الأمواج جثته على شاطئ تركي مشهد يهز النفوس، ويثير مشاعر لا توصف. هذا ما آلت إليه الأمور في بلاد العرب التي أصبح أهلها يفرّون منها، مفضلين الموت في دروب الهروب الوعرة على البقاء فيها، حيث سيلقون حتفهم في العاجل، أو يقمعون حتى آخر رمق. تتساءل أقوام متقدمة كيف يفضل شخص تعريض نفسه لموت أكيد على البقاء في بلده، في أرض آبائه وأجداده. إنها مفارقة العصر العربي البائس الذي يقمع فيه من يقمع، ويقتل فيه من يقتل في وطنه، بل وهو فار من جحيم بيت العرب.
الفوارق بين العالمين الغربي والعربي لا تعد ولا تحصى. لكن، يمكن اعتبار تلك المتعلقة بقيمة حياة الإنسان أم الفوارق. فقيمة حياة الإنسان في الديار الغربية (الديمقراطيات الغربية) لا مثيل لها في الديار العربية. فإذا ما أصيب غربي بمكروه، تقيم الحكومات الغربية الدنيا، معلنة حالة استنفار قصوى حتى يعود ذلك المواطن سالماً إلى بيته. وهناك تضامن غربي في هذا الشأن لا مثيل له في باقي العالم. أما في البلاد العربية، حيث يسود القمع والقتل والترحيل، فلا قيمة للإنسان. زيادة على ذلك، أصبح العربي غريباً في وطنه، فهو يُعامل كأنه أجنبي، بينما يُعامل الأجنبي (الغربي تحديداً) باحترام، إرضاء للحكومات الغربية التي لا تسمح أن يداس على مواطنيها، لا داخل حدودها ولا خارجها.
من هنا، "نفهم" الصمت العربي حيال تدفق اللاجئين العرب نحو الدول الأوروبية، وهو جزء من عملية معقدة لإفراغ البلاد العربية من جزء من أهلها. ونلاحظ، هنا، نوعاً من التقاء المصالح بين أنظمة سياسية وداعش ونظيراتها... لكن، كيف بحاكم "عاقل" أن يقبل أن تُفرغ بلاده من أهلها، في سبيل بقائه في السلطة. من بديهيات الأمور أن الحكم يقتضي، بالضرورة، وجود شعب، فغياب الأخير يعني انتفاء الحاجة إلى سلطة، لكن حكاماً عرباً لا يرون حرجاً في دينامية إفراغ المنطقة من أهلها رويداً رويداً، بل يعملون بطرق مختلفة على صيانة هذه الدينامية (بتهيئة الظروف لدفع الموطنين إلى الرحيل، هروباً من الموت البطيء أو الفوري). ثم كيف بحاكم عربي لا يعير أهمية لحياة مواطنيه أن يهتم بمصير أشقائهم في سورية وليبيا والعراق واليمين الذي تحول من بلاد العرب السعيدة إلى بلاد العرب التعيسة. والنتيجة أن الحاكم العربي هو أول من أحلَّ الدم العربي.

لا يثير الترحيل والرحيل في الديار العربية أي ردود فعل على المستوى الرسمي، وكأن الأمر طبيعي، فهما تحصيل حاصل. بل يبدو أن هناك إستراتيجية تقوم على تهيئة الظروف لرحيل المواطنين، لمغادرة بلدانهم عنوة أو بمحض إرادتهم (بعد تهيئة الظروف الضرورية لذلك). أما في الديار الغربية، فلا محل للترحيل من السياسة، أما الرحيل فهو مثار جدل وتساؤل بل ومساءلة. فعندما يغادر مواطنون غربيون بلدانهم للإقامة في الخارج، ولو في دول غربية أخرى، تبدأ التساؤلات عن سر هذه المغادرة، وهذا النزيف ومخاطر إفراغ البلاد من طاقاتها، كما هو الحال في بعض الدول الأوروبية بفعل الأزمة الاقتصادية. فالرحيل في الدول الغربية مثار تساؤل ونقد الذات ومراجعة للوضع القائم، أما في البلدان العربية فهو لا حدث... ما عدا تحميل الربيع العرب ما لا يطيق تبرئة للذات، ونكاية في جيل من العرب تجرأ على المطالبة بالحرية.
ما دها العرب حتى يفضل أطفالهم وصبيانهم ونساؤهم وشيوخهم الرحيل الذي قد يودي بحياتهم على البقاء في أرض أجدادهم! بالطبع، هؤلاء أجبروا على الرحيل، والاختيار بين الموت بالرصاص أو الغرق في البحر، فمن سيحكم حكام سورية وليبيا والعراق واليمن... في حال التخلص من جزء معتبر من سكان بلدانهم؟ يتحمل هؤلاء المسؤولية الأولى لهذه المآسي. وهناك مسؤولية على عاتق أنظمة عربية تورّطت في هذه الصراعات الأهلية، وغذّتها وتغذيها، مساهمة بذلك، بشكل مباشر أو غير مباشر، في مأساة اللاجئين العرب والغارقين منهم في مياه المتوسط. من هذا المنظور، تعد الصورة المؤلمة للصبي السوري الغريق دلالة على الغرق الاجتماعي والسياسي للعرب ككل.
وعليه، قبل لوم أوروبا على موقفها حيال مآسي اللاجئين العرب، يجب لوم الذات الجمعية العربية. صحيح أن دولا عربية حلَّ بها الخراب والدمار، لكن، ماذا عن الدول الأخرى؟ للعرب ما يكفي من المال والقدرات والأرض لاستقبال كل المواطنين العرب، بغض النظر عن جنسياتهم، وأسباب نزوحهم القسري أو الاختياري. لكن، تجري الرياح العربية بما لا تشتهي السفن الإنسانية. فالأنظمة القائمة، أو على الأقل بعضها، التي من المفروض أن تكون جزءاً من حل المأساة الإنسانية في العالم العربي هي، في واقع الحال، جزء من المشكلة، إن لم نقل المشكلة، فكيف بالمتورط في المأساة أن ينصف الضحية، ناهيك عن حمايتها. وكما يقال إذا حضر السبب بطل العجب. فلا غرابة في ألاَّ تتحمل الدول العربية، المتمكنة من حيث الإمكانيات والإمكانات، هذا العبء وتستقبل اللاجئين (الأشقاء)؟ بل نجد الدول العربية الأقل تمكناً (الأردن، لبنان وتونس) هي من يستقبل الجزء الأكبر من اللاجئين العرب (الأردن بالنسبة للعراقيين والسوريين، لبنان بالنسبة للسوريين وتونس بالنسبة لليبيين).
بدل عسكرة النزعات الأهلية العربية، والنزعات العربية-العربية، عبر مشروع إنشاء قوة عربية للتدخل السريع التي يبدو أنها أجهضت في مهدها، من الأجدر والمستعجل إنشاء آلية عربية مدنية لإغاثة اللاجئين العرب.