إسلام ضد الإسلام

إسلام ضد الإسلام

10 مايو 2020
+ الخط -
في أدبيات المآتم العربية القديمة، كان في وسع أهل الميت الذين لا يتقنون فنون اللطم والندب أن يستأجروا نساء متخصصات لهذه الغاية، لقاء مبالغ مالية متفق عليها، مع إمكانية رفع الأجرة وفق همّة "الندّابة"، وقدرتها على "اللعلعة" والصراخ والعويل. 
أما في أدبيات المآتم الجديدة، وبعد أن ضربت "الحداثة" أطنابها في بعض الأصقاع العربية، فقد صار متاحًا استبدال الندّابة بشخصيّاتٍ أرفع مكانة وأبلغ إقناعًا لأهل الموتى والمعزّين من "الندّابة" القديمة؛ ومنهم، مثلًا، أمين عام رابطة العالم الإسلامي، محمد العيسى، الذي كان قد زار معسكر أوشفيتز النازي، في بولندا، قبل مدة، وأمّ صلاة جماعية هناك، احتفاء بالذكرى الخامسة والسبعين لتحرير سجنائه من اليهود، مع التذكير أن موجبات التحديث فرضت استبدال العويل بالصلاة هذه المرة، أما "الإيجار" فثابت، وإن دفعه "الجيران" لا أهل الميّت.
وللإنصاف، لا يسعنا غير التأكيد أن أهل الميّت الذين لم يغلقوا باب المأتم منذ خمسة وسبعين عامًا، فتنهم هذا الأداء غير المتوقع من "الندّابة" الجديدة، بدليل أن الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي الإسرائيلية، استبدلت دموع المآتم ببهجة غامرة، وراحت تشيد بهذا الأداء الذي اعتبرته "خرقًا" عربيًّا جديدًا في جدار التطبيع الذي يزداد هشاشة، يومًا إثر يوم، بفضل شخصيّات من أمثال المطبّع السعودي محمد سعود الذي استقبله فلسطينيو القدس بالأحذية، وكالوفد البحريني الذي ضم 24 شخصًا وجال في شوارع القدس، وعلى غرار الدبلوماسي العُماني الذي صلّى في المسجد الأقصى، فيما تدين زعامة الاختراق لأمراء من طراز وزير الخارجية الإماراتي عبدالله بن زايد، الذي استذكر مؤخرًا ضحايا المحرقة اليهودية، بكثير من "اللطم" والعويل، فاستحق ثناء نتنياهو الذي اعتبر هذا "الندب" نتاج "جهود بلاده نحو التطبيع".
أيضًا، وللإنصاف، لا يسعنا إلا الإقرار بدهاء الجيل الجديد من أمراء النفط في بعض دول الخليج، ممّن أحدثوا خرقًا خلفيًّا في جدار التطبيع، عبر توظيف الإسلام ضدّ الإسلام، و"المأساة" ضدّ المأساة، ففي التوظيف الأول، رأوا أن أنجع السبل لإفحام المناوئين للتطبيع على خلفيات دينية، أن يأتي التطبيع من باب "الصلاة" وإقامة الشعائر الدينية، على اعتبار أنهم لا يزورون إسرائيل، ولا يصافحون العدوّ، إلا من أجل أداء ركعتين في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ولا بأس أن تتطوّر المصافحة، مستقبلًا، إلى إقامة علاقات دبلوماسية، وبناء أحلاف عسكرية، ما دام الهدف هو ذاته، وما دامت "الغاية تبرر الوسيلة"، وفي هذا ردّ على الفلسفة الصهيونية نفسها بمثلها.
وأما عن التسلل من باب التطبيع الآخر، وأعني بها "المأساة"، فمن خلالها يخاطب المتسلل الوجدان العربيّ النازف بالجرح الفلسطينيّ ذاته، وكأني بقادة التطبيع وعرّابيه يرمون إلى التذكير بأن ثمة "مأساة" أعظم فداحة ينوء تحتها المحتلّ الذي ما جاء إلى فلسطين إلا بسببها، ومن ثمّ ينبغي التعاطف معه، والسماح له بالغزو والاحتلال، واعتبار مقاومته شكلًا من أشكال الإرهاب إن دعت الحاجة؛ فمأساته أزيد، وجراحه أعمق، بدليل أن لا مأتم استدرّ تعاطفًا عالميًّا بهذا الحجم كمأتمه، في حين لا يُذكر المأتم الفلسطينيّ إلا في مقابر الشهداء.
من هذين البابين، يدخل أساطنة التطبيع الجدد، ومنه يخرجون، أيضًا؛ لأن المؤمن الحقيقي يدرك الفرق بين صلاتي الهزيمة والانتصار، ويعرف متى يصلّي في المسجد الأقصى ومتى يمتنع. ولأن المبتلى بمأساة الاحتلال، يعلم الفرق بين مأساة عرقيّة، لم يختلف فيها الجلاد عن ضحية هربت بعرقها قبل روحها لتمارس عنصريّة العرق في فلسطين، وبين مأساة شعب يجلده العالم كله، يوميًّا، وهو يؤازر المحتل عليه، وينكر حقه في وطنه وترابه. والأنكى أن الشقيق بات يردّد النغمة ذاتها، ويصلّي من أجل الجلاد لا الضحية. وهؤلاء لا يستحقون أي مأتم عندما تسحقهم شعوبهم عمّا قريب.

دلالات

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.