24 سبتمبر 2024
أين غاب اليسار ...؟
يكاد اليسار أن يصبح بمثابة الأرستقراطية الأخلاقية التي نحتاج إلى إعادة ابتكارها لحاجة جمالية تقتضيها ضرورات التصنيف المكتمل لما يمور في بلادنا العربية، من دون أوهام كبيرة بشأن حقيقة جدواها الفعلية. ولعلها نهاية لم تكن متوقعة في حكم التفاؤل الجارف الذي غذينا به كل تاريخ العرب المعاصر، لم تعد، من مكر الفكر والتاريخ، قادرة على أن تضع لليسار موقعاً في التحليل الحالي لمجريات ما بعد الربيع.
صيغة الاستنكار هي الوحيدة الكفيلة بإعادة وضعه ضمن شبكة القراءة: لماذا اضمحل اليسار العربي في التاريخ والواقع والخارطة السياسية الحالية، وفي القاموس التداولي الراهن؛ وعليه، لم يعد وارداً في أي استشراف مستقبلي منظور؟ على الرغم من أن تاريخ اليسار اقتسمته معه المؤسسة العسكرية العربية، وهي تبدع اشتراكية الثكنات، أو هي تبني البروليتاريا القومية، في ردهات الدولة البوليسية، فإنه استطاع مع ذلك أن يكون إسمنتاً لأحلام أجيال غير قليلةٍ من الثوار والمثقفين، والذين لا يعرفون منه سوى الوجه الطافح بكراهية إسرائيل. وتلك مفارقة ربما قد تقوي طابعه غير الواقعي، في تصور أصحابه وأذهانهم، تحول مع مرور النكسات وتعدد الضربات إلى هيولى سياسية، تحولت بدورها إلى ممتنع أخلاقي، ينسج من خلاله العقل اليساري عوالمه. وكانت النتيجة أن جزءاً من اليسار استطاع أن يجعل من البقاء في زنازينه الوهمية، أو العقيقية، جنة عدن جديدة فوق أرض تميد به كلما غامر بالخروج منها، جزء أخر اعتبر أن الفكرة اليسارية مجرد وقت مقتطع من الحضارة الإسلامية، إلى حين يعود السلف الصالح، ليركب معه القطار الذي انطلق مند 14 قرناً. قليل من اليسار أدرك، بالوعي والممارسة والتنسيب السياسي، أو الفلسفي، للأفكار بعد عراك مع الواقع أن الحل يكمن في التحول داخل التحول أو وضع التجربة في سياقها، ونسبيتها، وخوض معركة التفكير والتحديث الثقافي والقيمي.
وهذا اليسار هو الذي نسأل عنه حوليات الراهن العربي ومجرياته، ونستنكر غيابه؟ فالطائفي عاد إلى أحضان الطائفة، وحولها إلى معطىً موضوعي في توازنات السياسة والجغرافيا، والقبلي أحيا القبيلة، بعد أن عوض الطوطم بشعار الإقليمية الجديدة، والسلطوي عاد بالسلطة، كما ابتدعتها آلته الرهيبة، والمستبد نفسه يقدم الثورة، نتيجة الاغتصاب التاريخي الذي ضحّى به لفائدة الوطن، أما اليساري فغاب عن المعادلة، إلى حدود الساعة، والحال أن ملاحظةً عابرة تبين أن حروباً أهلية كثيرة، اليوم، سببها غياب اليسار عنصر توازن بين السلطة، قديمة أو جديدة، وخصومها. فعندما يغيب المكون اليساري، كقيم وأفق حداثي وأخلاق وطنية، وانتماء كوني محكوم بتقدمية القيم الكونية على غيرها من قيم النكوص الهوياتي، (من الهوية) يكون ارتطام القوى المكونة للمجتمع، المغرقة في انطوائيتها، سلطويةً كانت أو محافظة اجتماعياً، ارتطاماً دموياً، لا إمكانية فيه لحوار القيم والمؤسسات والعقل والتعددية، كما راكمتها البشرية.
ففي تونس، أبانت قوى اليسار التونسي الحداثي، المسنودة بالقوى الاجتماعية والنساء والمثقفين، قدرة فائقة في حماية المجتمع من المواجهات الاستئصالية النهائية، وغلبت "جدلية الفشل" بين مكونات البلاد، والمقصود بها تسليم كل طرف للطرف الآخر بالعجز عن القضاء عليه، والذهاب سوياً إلى طاولة التسوية التاريخية. أما ضعف اليسار في مصر، مثلاً، فقد جعله، على الرغم من تاريخه العريق، غائباً عن التفاوض التاريخي بين كتلتين في المجتمع، كلتاهما تعلن امتلاكها شرعية الثورة.
بعد أن كان اليسار، افتراضاً أو واقعاً، خلفية الثورات القديمة، العسكرية والقومية والوطنية، وأمضى عقوداً بين الجزمة والقفص، انكشفت الثورات الجديدة عن احتضاره، حتى حين لم تكن الثورة ضرورة لحل الخلاف السياسي، وحيث الاستحالة السياسية في فك النزاعات غير مجدية، كما في حالة المغرب، لم يجد اليسار له موقعا بعد (في خارطة التحولات الجارية، علماً أن ثقافة الاستبداد لن تواجهها سوى ثقافة اليسار، بعد كل التطهير الضروري ، الكاتارسيس، بلغة المسرح البريختي) لنفسه من بقايا البيانات العسكرية وقيم العنترية والاحتضان العرقي للذات، والتطهر، أساساً، من بنية الاستبداد الذي اختلطت به في فترة من الفترات. يبقى المشروع اليساري الديمقراطي ذو الأفق الكوني احتمالاً جدياً، لإنقاذنا من الانتحار الجماعي الذي يتهددنا.
صيغة الاستنكار هي الوحيدة الكفيلة بإعادة وضعه ضمن شبكة القراءة: لماذا اضمحل اليسار العربي في التاريخ والواقع والخارطة السياسية الحالية، وفي القاموس التداولي الراهن؛ وعليه، لم يعد وارداً في أي استشراف مستقبلي منظور؟ على الرغم من أن تاريخ اليسار اقتسمته معه المؤسسة العسكرية العربية، وهي تبدع اشتراكية الثكنات، أو هي تبني البروليتاريا القومية، في ردهات الدولة البوليسية، فإنه استطاع مع ذلك أن يكون إسمنتاً لأحلام أجيال غير قليلةٍ من الثوار والمثقفين، والذين لا يعرفون منه سوى الوجه الطافح بكراهية إسرائيل. وتلك مفارقة ربما قد تقوي طابعه غير الواقعي، في تصور أصحابه وأذهانهم، تحول مع مرور النكسات وتعدد الضربات إلى هيولى سياسية، تحولت بدورها إلى ممتنع أخلاقي، ينسج من خلاله العقل اليساري عوالمه. وكانت النتيجة أن جزءاً من اليسار استطاع أن يجعل من البقاء في زنازينه الوهمية، أو العقيقية، جنة عدن جديدة فوق أرض تميد به كلما غامر بالخروج منها، جزء أخر اعتبر أن الفكرة اليسارية مجرد وقت مقتطع من الحضارة الإسلامية، إلى حين يعود السلف الصالح، ليركب معه القطار الذي انطلق مند 14 قرناً. قليل من اليسار أدرك، بالوعي والممارسة والتنسيب السياسي، أو الفلسفي، للأفكار بعد عراك مع الواقع أن الحل يكمن في التحول داخل التحول أو وضع التجربة في سياقها، ونسبيتها، وخوض معركة التفكير والتحديث الثقافي والقيمي.
وهذا اليسار هو الذي نسأل عنه حوليات الراهن العربي ومجرياته، ونستنكر غيابه؟ فالطائفي عاد إلى أحضان الطائفة، وحولها إلى معطىً موضوعي في توازنات السياسة والجغرافيا، والقبلي أحيا القبيلة، بعد أن عوض الطوطم بشعار الإقليمية الجديدة، والسلطوي عاد بالسلطة، كما ابتدعتها آلته الرهيبة، والمستبد نفسه يقدم الثورة، نتيجة الاغتصاب التاريخي الذي ضحّى به لفائدة الوطن، أما اليساري فغاب عن المعادلة، إلى حدود الساعة، والحال أن ملاحظةً عابرة تبين أن حروباً أهلية كثيرة، اليوم، سببها غياب اليسار عنصر توازن بين السلطة، قديمة أو جديدة، وخصومها. فعندما يغيب المكون اليساري، كقيم وأفق حداثي وأخلاق وطنية، وانتماء كوني محكوم بتقدمية القيم الكونية على غيرها من قيم النكوص الهوياتي، (من الهوية) يكون ارتطام القوى المكونة للمجتمع، المغرقة في انطوائيتها، سلطويةً كانت أو محافظة اجتماعياً، ارتطاماً دموياً، لا إمكانية فيه لحوار القيم والمؤسسات والعقل والتعددية، كما راكمتها البشرية.
ففي تونس، أبانت قوى اليسار التونسي الحداثي، المسنودة بالقوى الاجتماعية والنساء والمثقفين، قدرة فائقة في حماية المجتمع من المواجهات الاستئصالية النهائية، وغلبت "جدلية الفشل" بين مكونات البلاد، والمقصود بها تسليم كل طرف للطرف الآخر بالعجز عن القضاء عليه، والذهاب سوياً إلى طاولة التسوية التاريخية. أما ضعف اليسار في مصر، مثلاً، فقد جعله، على الرغم من تاريخه العريق، غائباً عن التفاوض التاريخي بين كتلتين في المجتمع، كلتاهما تعلن امتلاكها شرعية الثورة.
بعد أن كان اليسار، افتراضاً أو واقعاً، خلفية الثورات القديمة، العسكرية والقومية والوطنية، وأمضى عقوداً بين الجزمة والقفص، انكشفت الثورات الجديدة عن احتضاره، حتى حين لم تكن الثورة ضرورة لحل الخلاف السياسي، وحيث الاستحالة السياسية في فك النزاعات غير مجدية، كما في حالة المغرب، لم يجد اليسار له موقعا بعد (في خارطة التحولات الجارية، علماً أن ثقافة الاستبداد لن تواجهها سوى ثقافة اليسار، بعد كل التطهير الضروري ، الكاتارسيس، بلغة المسرح البريختي) لنفسه من بقايا البيانات العسكرية وقيم العنترية والاحتضان العرقي للذات، والتطهر، أساساً، من بنية الاستبداد الذي اختلطت به في فترة من الفترات. يبقى المشروع اليساري الديمقراطي ذو الأفق الكوني احتمالاً جدياً، لإنقاذنا من الانتحار الجماعي الذي يتهددنا.